شيماء سامي تكتب: أن تنجب طفلاً لهذا المكان وهذا الزمان
كان خائفا وهو من لا يخاف من شيء سوى الخوف نفسه على حد تعبيره، لكنه كان خائف في تلك المرة. كان خائفاً على ابنه.
سألني ألم يكن الأصح ألا أنجب طفلا لهذا العالم، وهذا المكان، في هذا التوقيت؟ سألت نفسي هذا السؤال مرات، وسألني ضابط أمن الدولة أثناء التحقيقات السؤال نفسه.
كانت مخاوفه منطقية جدا. “لماذا لم تتزوجي وتنجبي؟” هكذا سألني في مقر أمن الدولة. كنت معصوبة العينين ومقيدة اليدين بأصفاد حديدية ثقيلة. كنت منهكة من الجوع والتعب. كان الوضع ساخراً بالنسبة لعقلي. أظن أن صورتي المنعكسة في عينيه سبباً كافياً كي لا أنجب. لكنه سأل على أية حال.
وأجبت بنفس المقدمات التي ذكرها صديقي لخوفه حالياً، من أن يكبر ابنه سوياً وأصبح يملك أفكاراً وعقلاً. لكن حينما سألني صديقي فكرت مرة أخرى. لم أشعر أن إنجاب طفل لهذا المكان وهذا الزمان أمر خاطئ. أليس منطقيا إن كنا نحارب الموت أن نخلق حياة؟ أليس الحل الأمثل لمقاتلة الضد ضده؟
يعني ألا يطفيء الماء النيران، وكذلك يطوي الضي الظلام، ويمحي الصوت ثقل الصمت. هكذا نقيض الموت خير سبيل للنجاة. أن نخلق الحياة لنستمر في مواجهة الموت.
“هلأ مر خمس سنين في محاولة مساندة الحق ضد الباطل، ضلنا خمس سنين سلميين ضد نظام مسلح، كل حد فينا له دور كبير حتى هي..” كان يشير إلى سما.. الطفلة التي ولدتها أمها وعد الخطيب وأبيها الطبيب حمزة الخطيب. أتحدث هنا عن الفيلم السوري “من أجل سما”
من أجل سما فيلم وثائقي صدر في سنة 2019، من إخراج وعد الخطيب وبطولتها هي وزوجها، تمر ساعة ونصف تقريبا وأنت بصحبة وعد وحازم ورفاقهم، من اختاروا أن يبقوا حتى النهاية دون رفع سلاح ودون الفرار ويحاربوا الموت بمحاولة الحياة دون غيرها. وكان هذا من أجل سما. كل سما.
ويبقى السؤال هل لو كانت وقعت عليهم قذيفة صاروخية من السلاح الروسي من النظام السوري أو ربما سقطوا ضحايا عنف من الجماعات الإسلامية التي حاولت فرض سيطرتها على حلب المحررة كما قالت “وعد” . هل كان سيكون لبقائهم معنى؟ لو ماتت منهم “سما” التي كانت نتاج حب نما بينهما، معلق على جذع شجرة حب الوطن والحرية. هل كان سيكون لبقائهم معنى؟
التضحيات الكبرى نثمنها ونتأثر بها لكن فقط في الأفلام. أما في الواقع فمن يختار التضحية بنفسه أو بحريته أو بمستقبله أو بأمانه أو حبه، في سبيل قضية نبيلة. فإننا نجد صعوبة في تقدير الفعل أو حتى في تقبل الأمر. لأن الثمن يكون حقيقي جدا. الدماء على الشاشة مختلفة عن الحقيقة. ورؤية الألم في السينما مختلف جدا عن رؤيته يحدث أمام عينيك. أغلبنا كبشر حين تسوء النتائج جدا نميل إلى لوم “الضحية” بدلا من إلقاء اللوم على “الجاني”. ربما لأن هكذا أسهل. أقصد أنه أكثر أمانا أن نلوم الضحية “الضعيف” من أن نلقي اللوم على قوي مجرم، هكذا أسهل، أقصد لأن من السهل تبرير رحيلنا عندئذ، تبرير تخلينا، تبرير صمتنا..
ألم نقل لكم الأفضل أن ترحلوا، ألم يكن الأفضل لك أن تصمت، ألم أقل لك أنه لا أمل، لماذا فعلت هذا؟ هل تغيير الكون بكلماتك إذا؟ ألم تفكر في أهلك؟ بيتك؟ نفسك؟ سعيد بتدهور صحتك الآن؟ بضياع أموالك ومستقبلك؟… هكذا نلقي باللوم على من ضحى. ننظر للتضحيات فنفجع من الثمن. نجد أن الأمر في شاشات السينما مبهر لكنه في الحقيقة يكون مخيف أكثر.
أليس منطقيا أكثر أن نقول للجاني أنه لم يكن يجب أن يتم قصف حلب مثلا وحصارها للقضاء على ثورة اشتعلت غضبا من حكم ديكتاتوري فقتلهم ودمر مدينتهم ليبقى! أليس منطقيا أكثر أن نلوم من يسجن ويعذب؟ أن نلوم من يهجر المواطنين قصرا عن وطنهم؟ أليس منطقيا أكثر أن لا يملك الوطن شخصا أو جماعة يفعلوا فيه ما يحلو لهم ومن يعترض يقتل أو يعذب؟
منطقيا أكثر ولكنه أصعب كثيرا، أصعب وأخطر، لأنه يكشف الوجه الآخر للسؤال الذي لا يتجرأ أن يسأله أحد. لو لم يرحل من رحلوا. لو صمدوا قليلا في المواجهة. لو امتلكوا نفس الشجاعة وفعلوا نفس الأمر وضحوا ذات التضحية. هل كانت الصورة ستختلف؟
لكن من يجرؤ أن يلوم إنسان هرب من القتل والتعذيب؟ من يجرأ أن يلوم إنسان هجر وطنه حينما قررت دولته أنها تملكه وتملك الوطن ولها أن تفعل ما شاءت به وبأسرته ولا عقاب لها إن مثلت بجثمانه أو هتكت عرضه أو ألقته في البحر أو دفنته حياً!
ومن يملك القدرة على أن يواجه هذا الرعب ويبقى، وإن رحل، هل يملك القوة أو الرغبة أو الأمان الكافي لكي يقول أن هذا الرعب قد حدث بمسؤولية الجاني.
كل هذا صعب جدا. يكاد يكون مستحيلاً. خاصة لو كنت تملك أبناء أو أسرة من أب أو أم أو إخوات. فالتضحية في السينما تركز على البطل وحده لكن في الحقيقة لا أحد يضحي بدون أن يسحب معه من يهتمون بشأنه إلى ساحة المعركة معه شاؤوا أم أبوا. لذلك نفعل السهل. نلوم الضحية.
بقيت وعد وبقى حازم، ونتج عن بقائهم ثمرة صغيرة ناعمة اسموها “سما” ورأت سما وهي مازالت في المهد الدماء وسمعت صوت القنابل وصراخ الجرحى. رأت الموت وهي مازالت تتعرف على فهرس الحياة. ليت الموت أسوأ ما رأت. لكن الحياة التي رأتها أسوأ.
كانت مقاومة الموت حتمية. وأكثر طريقة فعالة في مواجهة الموت هي خلق الحياة. لذلك السبب تزداد الحاجة للعلاقة الجنسية في مواضع تهديد الحياة، تزداد الرغبة في ممارسة الجنس لكي تشعر بالأمان والسعادة وأيضاً لكي تتكاثر. لكي تبقى. لكي تقاوم احتمالية الموت. تقاوم إحتمالية الفناء.
هكذا فكرت كثيرا في الجنس في أشد الأوقات حلكة بفترة سجني. وهكذا يفكر أيضا الأسرى الفلسطينيين في سجون المحتل الصهيوني الذي مازال يقتل الحياة في فلسطين منذ ثمانين عاما وأكثر. فكانت أكثر الأفكار جرأة هي تحرير نطفة الأسرى وخلق حياة في أرحام زوجاتهم. فيبقى الأسير حرا في نطفته. وتبقى القضية حية في نسله. وتبقى مقاومة الموت آلية للحياة.
لكن إن كان فيلم “إلى سما” في ساعة ونصف لم تكف عيني خلالهما عن البكاء. إلا أنه جعلني أعترف بصوت عالي بما كنت قد أخفيته. لقد كذبت في التحقيق. أنا أريد أن أنجب طفلاً. ولست مهتمة لو وصل به الحال لما وصلت إليه. ولو مر بما مررت به. سأحزن لكن منذ متى قتلني الحزن؟ لكنني أريد أن أنجب طفلاً. وأن أعلمه أن يحيا. أن يكون حراً كريماً عادلاً.
أن نخلق حياة تقاوم الموت قد يكون الحل الأكثر نمطية وقدما، ولكنه أيضا الفعل الأكثر فاعلية لخلق حياة وحرية. قبح الاستسلام والتوقف عن المحاولة والتحايل أسوأ سيناريو يمكن أن تقع فيه البشرية ووقتها نكون تحت كفي الموت كالميت بين كفي مغسله. أما ما دمنا نقاوم فإن طالنا الموت حتى لن نمت.
حلب المحررة لم تمت بسبب هؤلاء الذين بقوا وحاولوا لآخر لحظة وما نتج عن محاولاتهم بشتى الطرق السلمية جعل الحرب في سوريا مختلفة ومازال لنضالهم معنى وسيحدث بلا شك أثر في التاريخ السوري ولو على المدى الطويل.
والنطف المحررة لم تمت بسبب هؤلاء المناضلات والمناضلون الذين تحايلوا على الموت، واستطاعوا أن يخلقوا حياة، ومازال للنضال الفلسطيني معنى بسبب تنوع أساليب الحرب والمقاومة، وعدم استسلامهم للموت، وسيحدث بلا شك أثر مهما طال الزمن.
ونعم يا صديقي المصري.. أنا أيضا خائفة من الإنجاب لخوفي على طفلي. لكني حينما تلامس وجهي مع لفحة قاع البئر المظلم، لم أفكر وقتها سوى بطفلة محررة صغيره تخرج من رحمي حتى أني أسميتها في خيالي “ليلى”. لم أخبر المحقق يومها هذا. لم أظن أنه سيفهم كما لم يفهم أياً من كلامي. لكني أخبرك أنت لتفهم. أن طفلك أفضل ما فعلته في ثورتك.
ألا ترى أنه أمر منطقي إن كنا نحارب الموت أن نخلق حياة؟