زياد العليمي يكتب: المستقبل يمر عبر تحالف المهزومين (مقدمة لسلسلة العدالة الانتقالية)
تعلمت خلال سنوات الدراسة، مثل جميع دارسي القانون أو علم الاجتماع أن الدستور هو التعبير الأبرز لفكرة العقد الاجتماعي. وبعد ثلاث سنوات من محاولة بناء دولة على أسس جديدة، بات واضحًا للجميع أن ما حاول أساتذتنا تعليمنا إياه ما هو إلا تبسيطا مخلا لفكرة العقد الاجتماعي! فالأهم من المواد والقواعد القانونية المصاغة في وثيقة تحوز اتفاق عام تسمى الدستور، هو آليات تنفيذه، واستقلال المؤسسات التي تشرف وتعني بتنفيذ هذا الدستور والقوانين واللوائح والقواعد الحاكمة.
واليوم يتأكد لنا أن ما دافع عنه عدد من القوى الثورية بعد 11 فبراير، من أن البلاد تحتاج فترة انتقالية طويلة يعاد فيها هيكلة مؤسسات الدولة لتصبح مستقلة بحق عن الحكام لم يكن محض جنون؛ بل أثبتت التجربة بعد ثلاث سنوات أنها الرؤية الأقرب للصواب.
فبعد ما يزيد على الستين عامًا اعتادت فيها كل مؤسسات الدولة أن تعمل وفق مصالح وأهداف الحاكم ـ أيا كان هذا الحاكم، وحتى لو كانت أهدافه ضد مصالح الملايين من أبناء الشعب ـ كان من الضروري غلق صفحة الماضي بشكل جيد من خلال برنامج العدالة الانتقالية، لمحاسبة ومحاكمة كل من ارتكب جرائم في الماضي، وفتح صفحة جديدة في عمر الوطن يتساوى الناس فيها في الحقوق والواجبات.
وبعد غلق صفحة الماضي تأتي المهمة الأهم والأصعب: إعادة هيكلة مؤسسات الدولة لتصبح حديثة مستقلة، تخدم مصلحة مالكيها من أبناء الشعب بصرف النظر عن توجهات الحاكم. وهنا سنكتشف بمراجعة أنفسنا أن قادة التغيير في العالم نقلوا لنا درسًا من خلال تجاربهم لكننا لم ننتبه إليه وهو أنه لا يمكن أن يولد أي جديد دون أن يحوي عناصر موجودة في الماضي! فلا يمكن أن يمحى كل قديم فجأة، وعلينا أن نعتمد على عناصر الماضي والحاضر لبناء المستقبل وتغيير تلك العناصر نفسها بإدماجها في عملية التغيير.
وبعد مصادرة الحياة السياسية، وغلق المجال العام عقودا طويلة وغياب آليات مراقبة ديمقراطية على مؤسسات الدولة؛ من الطبيعي أن نجد أنفسنا أمام تيارات وقوى سياسية ضعيفة جدًا، فيما عدا من استولى على السلطة خلال تلك السنوات ،وسخر مؤسسات الدولة لخدمته، وكذا من نجح في التحالف معه أحيانًا مستفيدًا من تناقضهما المشترك الرئيسي مع القوى الديمقراطية؛ متحصلا على بعض المكاسب التي ساعدته على أن يكون أقوى نسبيًا من الباقين، فضلا عن مؤسسات دولة أصبح الفشل ملاصقًا لكل تحركاتها نتيجة الفساد أو الإفساد، وترك قياداتها تفعل ما تراه دون رقابة أو محاسبة.
قوى الواقع تعيد بناء المؤسسات على قواعد جديدة:
وهنا تصبح الضرورة الملحة ـ بعد غلق صفحة الماضي بمحاكمة المتسببين والمشاركين في جرائمه ـ إعداد المجال السياسي وإدارة فترة انتقالية، يتم فيها إعادة بناء مؤسسات الدولة بمشاركة جميع من لم يتورطوا في جرائم بحق الشعب، دون أي إقصاء. بحيث تصبح تلك المؤسسات مستقلة عن الحاكم وقادرة على إدارة الدولة لصالح مواطنيها، ولديها آليات ديمقراطية للإشراف على العملية الديمقراطية دون تحيز أو تدخل، وتكون تلك المؤسسات المستقلة الحكم بين المتنافسين عندما تبدأ تلك القوى المنافسة على ثقة الناخبين، للوصول إلى إدارة البلاد من خلال الآليات الديمقراطية.
وبالتالي، علينا أن نبدأ برصد القوى الموجودة في العملية السياسية المصرية، قديمها وجديدها (شبكة رجال نظام مبارك، وقوى الإسلام السياسي، والقوى المدنية، والمجموعات الشبابية الثورية، والمؤسسة العسكرية) وهي القوى المؤثرة في العملية السياسية بدرجات متفاوتة حتى الآن، ولا يمكن أن نتحدث بجدية عن بناء نظام جديد من دون اتفاق جماعي فيما بينها.
وهنا يصبح الحل الذي طرحته بعض القوى الثورية بخصوص إدارة فترة انتقالية طويلة نسبيًا ـ قد تصل إلى أربع سنوات مثلما وصلت في جنوب أفريقيا إلى سبع سنوات ـ يتولى فيها رئيس مؤقت السلطة ويكون مسئولًا عن الأمن القومي والتمثيل الخارجي للدولة فقط، وتشكيل حكومة إئتلافية من كل القوى الفاعلة ـ حتى ولو لم يرق لنا اشتراكها في العملية السياسية ـ بصلاحيات كاملة، يكون دورها إعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل مستقل ـ بمقتضى خطة واضحة ومتفق عليها من الجميع ـ ويمكن صياغة تلك الخطة في دستور مؤقت يتم استفتاء الشعب عليه لتصبح تلك الخطة هي الشرعية الوحيدة في البلاد.
وهنا يثور تساؤل حول المراقبة، وما إذا حاولت بعض القوى المشاركة إدارة المؤسسات المسئولة عن إعادة هيكلتها لصالحها؟ وتخبرنا تجارب الدول التي طبقت برنامج العدالة الانتقالية بأنه إذا شاركت كل القوى في إدارة مؤسسات الدولة، خلال الفترات الانتقالية، وفق برنامج متفق عليه، ويعلم الجميع أن هذه القوى ستتنافس في الانتخابات القادمة لنيل ثقة المواطنين، ستصبح كل هذه القوى رقيبًا على بعضها البعض، ويكون الشعب الحكم فيما بينهم خلال تلك الفترة، فإذا استغلت إحدى تلك القوى صلاحياتها وسلطاتها لإعادة الهيكلة لمصلحتها الخاصة، ستجتمع باقي القوى المشاركة للوقوف في مواجتها ضمانًا لاستقرار قواعد المنافسة في المستقبل.
قوى الواقع عقبة في وجه المستقبل:
إلا أن هذا السيناريو المطروح وجد أمامه عقبة رئيسية، وهي أن هناك بعض القوى الفاعلة والأقوى تأثيرًا في المجال العام لظروف مختلفة، تأبى أن تشارك الباقين في عملية إدارة شئون الدولة ـ والحديث هنا عن القوى الإسلامية والمؤيدين لحكم المؤسسة العسكرية ـ ويرى كل منهم في نفسه طرفًا قادرًا على إدارة شئون الدولة بنفسه، من دون مشاركة مع أحد، أو تقديم تنازلات تقتضي مشاركة الباقين في السلطة، أو إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بشكل يضمن استقلالها عنه، وبالتالي فإن كل منهما يحاول أن يستقر له الحكم وحده مستبعدًا الباقين.
ولأن هذين الطرفين يجمعهما طريقة واحدة في التفكير، تجعلهما لا يدركان أن الفساد والاستبداد ومصادرة المجال العام خلال سنوات طويلة، عوامل نالت من قوتهما وقدرتهما على التنظيم والإدارة، وبالتالي إذا استقرت الأمور لأي منهما لن يكون قادرًا على تلبية طموحات الناس، وسيجتمع الفرقاء ممن تم استبعادهم من معادلة الحكم، ضد من سيصل إلى السلطة فتكون نهايته السقوط!
ولأن دروس التاريخ عادة ما تتعلمها الشعوب بالتجربة، يكون لزامًا علينا كي نصل إلى إدارة فترة انتقالية تبني قواعد دولة المستقبل، أن نقبل أن يجرب كل من هذين الفصيلين الاستئثار بالحكم، ومحاولة الحفاظ عليه بنفس الآليات القديمة، وهنا سيحدث ما نبهنا إليه من اجتماع الفرقاء ضد من يحتكر الحكم لينتهي الأمر بالسقوط! فيتعلم من يحلم بالاستئثار بالسلطة وإعادة إنتاج النظام القديم لصالحه، أنه لن يتمكن من الاستمرار إلا بتقديم بعض التنازلات والقبول بالمشاركة في السلطة، لا الاستيلاء عليها، عندها سيعرف الجميع بالتجربة العملية، أن مصيرنا مرتبط ببعضنا البعض حتى ولو لم نقبل ذلك، حتى نعبر الفترة الانتقالية ونضع أسس دولة حديثة، ويجرب من يرى في نفسه القدرة على القيادة منفردًا نتيجة سعيه، فيهزم ويقبل باقتسام السلطة خلال الفترة الانتقالية لبناء أسس وقواعد الدولة الجديدة، حينها سنصبح أمام تحالف المهزومين الذي سيقود البلاد للمستقبل.
في النهاية، هذه محاولة لقراءة الواقع ـ كما هو ـ والتفكير في طريق انطلاق للمستقبل دون استبعاد أي من العناصر الموجودة بالفعل والمؤثرة في مجرى الأحداث. فإذا كنت ممن يرون إمكانية القضاء على تيار أو جماعة أو حتى شبكة مصالح بشكل كامل، وإبادة أعضائها فإن هذا المقال لن يجيب عن أسئلتك لأن كاتبه لا يعتقد في إمكانية إقصاء أي تيارات فاعلة في المجتمع.