زياد العليمي يكتب: الجرائم السياسية أمام محاكم الشعب (الحلقة الرابعة من سلسلة العدالة الانتقالية)
الهدف الأولى بالرعاية في برنامج العدالة الانتقالية، هو ضمان إغلاق صفحة الماضي تماما، وتهيئة المواطنين لبناء مجتمعهم الجديد، بالقواعد التي يتفقون عليها، بما يضمن عدم تكرار جرائم الماضي مرة أخرى، ولذا استخدمت التجارب المختلفة للعدالة الانتقالية في العالم، طرقًا مختلفة لغلق صفحة الماضي.
جنوب أفريقيا: عقاب لا انتقام
في جنوب أفريقيا لم يتم اعتماد المحاكمات، والعقوبات الجنائية التقليدية، لمحاكمة المسئولين عن جرائم الماضي، وهو أمر كان مناسبا جدًا لظرفها السياسي والاجتماعي حينذاك. دولة مرت بسنوات طويلة من الفصل العنصري، مارست خلاله كل الأطراف جرائم تجاه بعضها البعض، حتي ضجت جماهير تلك الأطراف نفسها من نظام الفصل العنصري، فكان من الأنسب اعتماد فكرة الاعتراف بجرائم الماضي لطي صفحته.
لم تستهدف فلسفة العقاب الانتقام من الجاني أو تعذيبه، فالعقاب الناجح هو الذي ينجح في وقاية المجتمع مستقبلا من تكرار الجرائم المعاقب عليها، عن طريق تحقيق الردع الخاص والعام. بعدها يعلم المتهم أن تكرار الجريمة، يعني تكرار العقاب، ويعلم أفراد المجتمع عاقبة ارتكاب نفس الفعل، فيعزف نفس الشخص، وأفراد المجتمع عن الفعل المؤثم.
هنا يمكننا القول بأن العقاب حقق الهدف منه.
وإجبار مرتكبي الجرائم على الاعتراف بتفاصيلها، وعلى كشف الشركاء علنًيا عبر وسائل الإعلام، إجراء يحقق نوعين من الردع.
الردع الخاص للمجرم بإجباره على الاعتراف والاعتذار علانية، أمام أسرته وأهله ومعارفه وشعبه كله بجرائمه، وطلب الصفح من الضحايا، وما يستتبعه ذلك من عار سيلاحقه، ويلاحق كل من يتسامح مع جرمه ما بقي من عمره.
كما يحقق هذا الإجراء الردع العام من خلال متابعة الشعب لتفاصيل العقوبة.
مصر وأسئلة واقع مختلف
نجاح تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية، بالشكل الذى إرتضاه شعبها، أكبر دليل على ضرورة مراعاة الواقع المحلي لكل بلد خلال الفترات الانتقالية.
ومن خصوصيات المجتمع المصري، أن هناك فئات ارتكبت جرائم، وفئات أخرى كانت ضحايا فقط.
كما أن ثقافة الثأر، خاصة فيما يتعلق بجرائم النفس، تنتشر في مجتمعنا، وتهدد بانهيار التجربة كلها، إذا لم يشعر الضحايا وذووهم أن الإجراءات العقابية كانت كافية لتحقيق التوازن بين ما تم من انتهاك لحقهم، والرغبة في بناء وطن بقواعد مختلفة يضم جميع أبنائه.
وبالتالي أرى أن يتم تقسيم الجرائم إلى أربعة أنواع رئيسية:
النوع الأول: جرائم صغيرة يكفي الاعتراف بها، وطلب الصفح، وهي جرائم أصبحت جزءً من النظام العام الحاكم للمجتمع، مثل الرشاوى الصغيرة التي يتلقاها صغار الموظفين لتسيير الأمور، من دون إهدار حقوق كبرى للآخرين، وغيرها من جرائم الفساد، والتي لم تسبب ضررًا لآخرين، أو كان الضرر بسيطًا بحيث يمكن تجاوزه.
ويكتفي في هذا النوع من الجرائم، بالتحقيق فيها، وتسجيل إعترافات مرتكبيها، وكل من تورط فيها، مقابل الاعتراف وطلب الصفح من المجتمع. وهنا يتحقق الردع بحجم الجرم، من خلال اعتراف مرتكبه بأنه كان جزءً من منظومة الفساد التي سادت المجتمع، مع توثيق الاعتراف في وثائق رسمية.
النوع الثاني: جرائم مالية يمكن تعويض ضحاياها، وهي الجرائم التي تتعلق بالمال الخاص، والعام، والتي يمكن جبر الضرر الواقع عنها وتعويض المتضررين منها ماليًا. وهذا النوع من الجرائم يتحقق فيه الردع، من خلال الاعترافات الموثقة أيضًا، والمحاكمة أمام هيئة قضائية تقضي بعقوبات مالية، كافية لجبر الضرر وتعويض المتضررين عن كل ما أصابهم من أضرار.
النوع الثالث: جرائم مالية وجرائم نفس عقابها السجن، وهي الجرائم التي تتعلق بالمال الخاص أو العام التي لا يمكن جبر الضرر عنها وتعويض الضحايا وذويهم، وجرائم النفس مثل القتل والإصابة والتعذيب والإخفاء القسري.
ويكون الردع في هذا النوع من الجرائم بالعقوبات السالبة للحرية، ويمكن تخفيف العقوبة أو إلغاؤها، بحسب تقدير المحكمة، إذا ثبت أن الضحايا وذويهم قد تنازلوا عن حقهم من خلال جلسات موثقة بحضور حقوقيين، وإشراف المفوضية العليا للعدالة الانتقالية قبل بدء المحاكمة.
النواع الرابع: جرائم سياسية يحكم فيها المواطنون، وهي الجرائم السياسية التي لم تسبب أضرارًا تجعلها تقع تحت أي من فئات الجرائم الجنائية السابقة.
وهذا النوع من الجرائم، أرى أن يكون الحكم فيه للشعب، بعد قيام المتهمين، بتقديم اعترافات كاملة، ومواجهتهم بالشهود، في وسائل الإعلام العامة، والإقرار بما ارتكبوه من جرائم، وطلب الصفح من الشعب الذي تضرر بسبب هذه الجرائم.
وتقتصر العقوبات في الجرائم السياسية على حرمان من مباشرة الحقوق السياسية لمدة دورتين انتخابيتين كاملتين، فقط في حالة ثبوت الإتهام على المتهم دون إقرار منه أو اعتراف، منذ بدء عمل لجان الحقيقة وحتى بدء إجراءات المحاكمة.
حاول هذا التقسيم مراعاة خصوصية الوضع المصري، المتعلقة بأن هناك فئات لم تشارك في إرتكاب جرائم، وكانت ضحايا لأنظمة متعاقبة بشكل أو بآخر. وكذا رسوخ فكرة “الثأر” في جرائم القتل لدى قطاع كبير من المجتمع المصري، الأمر الذي يحتاج سنوات طويلة لمعالجته، عبر مشاركة الضحايا في المرحلة الأولى من مراحل العدالة الانتقالية والمتعلقة بجمع الأدلة، ومتابعتهم إجراءات المحاكمة، وتوثيقها في المرحلة الثانية.
ومن ناحية أخرى ينبغي الموازنة بين الرغبة في رد الحقوق والردع، وفي نفس الوقت عدم إثارة ذعر من ارتكبوا جرائم يمكن تعويضها بغير طريق العقوبات السالبة للحرية. حيث يجب التمييز بينهم وبين المتورطين ـ من أعضاء وقيادات مختلف الفصائل ـ في جريمة توجب عقابهم بالعقوبات السالبة للحرية. وبالتالي، يصبح الجميع على استعداد للتضحية بمن ارتكب هذا النوع من الجرائم، حتى ولو كانوا رفاقهم! ويتم تفكيك شبكات الفساد. وفي المقابل، سيجد الجميع مكانًا في الدولة الجديدة، بالقواعد الجديدة التي تضمن عدم عودة تلك الشبكات مرة أخرى.
في المقال التالي والأخير:
مفوضية العدالة الانتقالية تبدأ الخطوة الأولى في بناء المجتمع الجديد، وتستعين بالخبراء لعلاج الفساد الهيكلي في مؤسسات الدولة، عبر حوار مجتمعي. الخطوة الثانية هي كتابة دستور جديد، يتوج عمل مفوضية العدالة الانتقالية، في هيكلة مؤسسات الدولة، بحوار مجتمعي ودعم شعبي