زهدي الشامي يكتب: سد النهضة.. المخاطر والمأزق والمخرج
لعل النزاع الراهن حول بناء سد النهضة الإثيوبى، ومايرتبط به من تداعيات خطيرة على مصر، يعد التحدى الوجودى الأخطر فى تاريخها الطويل. فمصر وفق تعبير هيردوت الشهير هى ” هبة النيل” حيث ارتبطت الحياة والزراعة والحضارة بتدفق المياة فى هذا النهر وافدة من عمق الهضبتين الإثيوبية والاستوائية .
وقد أدركت مصر عبر التاريخ شعبا وحكاما أن حياتها وأمنها ترتبطان بهذه المياه الآتية لها من الجنوب، بما يفرضه هذا من منع أى خطر قد تتعرض له. وتعرضت مصر تاريخيا لشح المياه نتيجة سنوات القحط فيما عرف فى التاريخ الفاطمى بالشدة المستنصرية التى تعاقبت فيها سبع سنوات عجاف متوالية، مما أدى لكارثة كبيرة للشعب المصرى. وشهدت مصر سبع سنوات عجاف فى ثمانينيات القرن الماضى مابين عامى 1980 1987 ، حيث انخفض تدفق النيل الأزرق لاقل من النصف ، لكن السد العالى وقتها هو الذى انقذ الزراعة والحياة فى مصر، حيث تم السحب من مخزون بحيرة السد ، مما أدى لانخفاضه لأدنى حد ممكن، ولكن فى النهاية جاء الفيضان المرتفع الذى ساهم فى بدء عودة الأمور لطبيعتها.
والتهديد الذى تواجهه مصر نتيجة بناء سد النهضة الإثيوبى بالشروط الاثيوبية سيكون أخطر كثيرا، فى حالة سنوات الفيضان المنخفض والجفاف خصوصا ، ونتيجة رغبة إثيوبيا فى الإستئثار بمياه النيل الازرق عموما، والتى تعد المصدر للحصة الأكبر من مياه النيل، حيث تعد الهضبة الإثيوبية مصدر مايعادل 84.5 % من إجمالى مياه نهر النيل، وعموما فالخطر فى هذه المرة لن يصبخ خطرا مؤقتا ، بل خطرا دائما ومتصاعدا ، مما يجعله خطرا وجوديا يهدد الحياة ذاتها فى مصر
المسؤولية: ثورة يناير أم سياسات خاطئة للنظم الحاكمة
—————————————————-
مع مرور الوقت واستنزافه واقتراب كارثة منع وصول المياه لمصر، بدات تخرج تبريرات وتصريحات متكررة مفادها أن المسؤولية عن بناء السد الإثيوبى ترجع لثورة يناير المجيدة، حيث لم يتم بناء سدود قبلها . ولكن الوقائع تدحض تماما مثل تلك التبريرات لفشل السياسات الحكومية فى التعامل مع هذا الملف الخطير لسنوات. فقد ظهرت الخطط الإثيوبية لبناء السد فى ظل سلطة مبارك، وكانت مصر قد دخلت مع دول حوض النيل فيما يسمى مبادرة دول حوض النيل ، بمشاركة ورعاية البنك الدولى ، وهو كان من شأنه بداية الترويج لأفكار تسليع وخصخصة المياه ، بديلا عن أفكار التعاون المشترك و النظر للمياه باعتبارها إرثا بشريا عاما وجماعيا . ثم إن إثيوبيا مستغلة الإبتعاد المصرى والجفوة مع الدول الإفريقية ، استطاعت إجتذاب غالبية دول حوض النيل الأخرى لرؤيتها التى ترمى لإنكار الحقوق التاريخية لمصر ، كما تم التأكيد عليها فى اتفاقات دولية عديدة ، بادعاء أن هذه الاتفاقات ، ومن بينها اتفاقية 1902 مع إثيوبيا التى تمنع بناء سدود إلا بموافقة الحكومة المصرية ، اتفاقات موروثة من العهد الإستعمارى . وتوجت التحركات الإثيوبية بتوقيع خمس من دول حوض النيل اتفاقية عنتيبى فى 14 مايو 2010 ، وبدون مشاركة مصر و السودان ، والتى انضمت لها بورندى فى فبراير 2011 ليكتمل النصاب القانونى للإتفاقية . وجاءت المرحلة الثانية من إضفاء الشرعية على التحرك الإثيوبى فى عام 2015 بتوقيع إعلان المبادئ بين مصر و إثيوبيا والسودان فى الخرطوم فى 23 مارس عام 2015 ، وهو الإعلان الذى تضمن لأول مرة موافقة صريحة من مصر على بناء سد النهضة ، وحتى بدون التوصل لإتفاق تفصيلى محدد حول كل جوانب تلك المسألة الحيوية . و أتاحت تلك الموافقة والمشروعية لإثيوبيا الحصول على تمويل الهيئات الدولية كالبنك الدولى، التى تشترط موافقة دول حوض النهر الأخرى لتقديم مثل هذا التمويل . وفى الواقع لم يكن بناء السد قد قطع اى مرحلة هامة قبل توقيع اتفاقية الخرطوم وتيسر التمويل .
المخاطر والأضرار المحدقة
—————————
لاسبيل لإخفاء المخاطر والأضرار الكبيرة التى يمكن أن تلحق بمصر من بناء وتشغيل السد الإثيوبى . والواقع أن الحكومة المصرية بتوقيعها اتفاق الخرطوم لعام 2015 ، قد تجاوزت عن حقوق مصر فى الإعتراض على بناء سد بهذه المواصفات، التى لاتتناقض فقط مع المعاهدات الموقعة مع مصر، بل مع إتفاقية الانهار الدولية، التى تمنع بناء سدود كبرى تضر بمصالح دول المصب، وتغاضت عن المسألة الخطيرة الخاصة بضعف أمان هذا السد والذى لايزيد معامل الأمان فيه عن 1.5 درجة ، مما يهدد جديا بإمكانية إنهيار متوقع ، وفى حالة حدوثه قد يحدث سونامى يغرق مدينة الخرطوم تماما، وقد تمتد آثاره لانهيار السد العالى فى مصر وتحولت المفاوضات من المسار القانونى للمسار الفنى المتعلق فقط بملء وتشغيل السد، وهو مسار تلاعبت فيه إثيوبيا واستعملته كمجرد وسيلة للمماطلة وإضاعة الوقت لفترة تجاوزت خمس سنوات بدون التوصل لأى اتفاق مقبول يقلل ، ولا نقول يمنع ، الأضرار و الأضرار الجسيمة التى يمكن أن تلحق بمصر ، من جراء خفض حصتها من المياه التى تظل معها أصلا فى حد الفقر المائى ، من 55 مليار متر مكعب إلى مجرد 31 مليار متر كما تريد إثيوبيا ، وليس فقط إلى 40 مليار كما كان يريد المفاوض المصرى . و الواقع أن كافة الدراسات المتوافرة تدل على إن خفض حصة مصر بتلك النسبة ستكون له آثار كارثية على الزراعة و على إنتاج الكهرباء . ورغم ذلك فقد انتهت إثيوبيا مؤخرا للتهرب من جولة المفاوضات النهائية التى تبنتها الولايات المتحدة والبك الدولى ، واظهرت توجها صريحا من التهرب من اى إتفاق ، و الإعلان عن توجهها بملء السد بإرادة وقرار منفرد ، ويعتبر كل ذلك استهانة صريحة بالقانون الدولى ، بل وباتفاق الخرطوم ذاته مع كل عيوبه .
تدويل القضية اليوم وليس غدا
—————————–
فى مواجهة الوضع الراهن الخطير، والذى نجم عن الممارسات الإثيوبية، وأخطاء الإدارة المصرية فى التعامل مع موضوع مصيرى لايقبل التهاون، لم يعد أمام مصر متسع آخر من الوقت لإضاعته فى هذا التفاوض العبثى، فى مواجهة إعلان الحكومة الإثيوبية عن بدء ملء السد بشكل منفرد فى شهر يوليو المقبل. ورغم كل الأخطاء ، فمن الواضح الآن أن الموقف الإثيوبى المتعنت والمتجاهل للقانون الدولى أصبح واضحا لبلدان العالم المختلفة .
ولابديل لمصر الآن سوى تدويل القضية فورا ، وباللجوء لمجلس الأمن الدولى ، ومجلس السلم والأمن الأفريقى ، لاستصدار القرارات المتوافقة مع الشرعية الدولية والقانونية ، مع احتفاظ مصر بحقها فى اللجوء لكل الخيارات للحفاظ على أمنها وحق شعبها فى الحياة ، فى حالة استمرار الحكومة الإثيوبية فى انتهاك كل الحقوق والقوانين التى يتفترض إلتزامها بها .