زهدؤ الشامي يكتب : ردا على خطة مدبولي الاقتصادية .. البيع ليس حلا
شهدت الأيام الماضية سيلا من المواقف والتصريحات والخطط الحكومية من الدكتور مصطفى مدبولي ووزرائه ، تتعلق بالأزمة الاقتصادية الراهنة ، ومقترحات الحكومة لمواجهتها . وفي هذا السياق فإنني أود أن أناقش هذه الخطة من خلال ما طرحه حزب التحالف الشعبي في بيانه والذي اتوافق مع ما جاء فيه من خلال بيانه اجمالا على النحو التالي :
واجمالا يمكن القول بأن مايميز الموجة الحالية من التصريحات والمواقف الحكومية ، هو إقرارها بواقع وحقيقة الأزمة الاقتصادية الراهنة ، ولكنها تتنصل من مسؤولية الحكومة وسياساتها عنها ، بل تشيد بالسياسات السابقة التى تعتبرها إنجازات ، وتلقى بالازمة كلها على الأزمة العالمية متمثلة تحديدا فى آثار الحرب الأوكرانية التى تلت أيضا أزمة كورونا . وعلى الرغم من الاعتراف على استحياء ، بعدم كفاية المدخل القديم للسياسات الاقتصادية الذى يركز على السياسات النقدية لمكافحة التضخم الزاحف، والذى ورد على لسان مدبولى على هامش المنتدى الاقتصادى المصرى التونسى ، وهو ماقد يمكن فهمه على أنه نقد للمدخل النقدى المميز عموما للاتفاقات السابقة مع الصندوق ، ومايقتضيه ذلك من مداخل أخرى تركز أكثر على الإنتاج ، فإن المسار الحالى لمقترحات وخطط الحكومة لا يعدو أن يكون تكريسا وإعادة لإنتاج نفس السياسات القديمة التى أدت للأزمة الاقتصادية العميقة الحالية .
ويهمنا فى معرض تحليل ونقد التصريحات والخطط الحكومية الأخيرة أن نرد على عدد من التصريحات ، ونشير لعديد من الحقائق على النحو التالى :
اولا – أننا نرفض بشكل أولى ومطلق ما كشف عنه رئيس الوزراء من خطة حكومية لتسييل أصول للدولة المصرية تصل قيمتها إلى ٤٠ مليار دولار على مدى أربعة سنوات ، وطرحها للخصخصة سوءا فى البورصة أو البيع المباشر لمستثمرين أجانب أو محليين . ويثير قلقنا واستهجاننا خصخصة ١٠ شركات عامة منهم ثمانية شركات للقطاع العام وشركتين فقط تابعتين للجيش . وفوق ذلك الحديث عن ضم أكبر سبعة موانئ مصرية فى شركة قابضة واحدة تمهيدا لطرحها للخصخصة فى إطار تلك الخطة ، وهو الأمر الذى يعنى أن الخصخصة تجاوزت مرحلة خصخصة وتصفية الشركات إلى مرحلة بيع المرافق الاستراتيجية للدولة وصولا للموانئ التى تعتبر خطا أحمر للأمن القومى المصرى . ونحذر عموما من الإعلان عن الانسحاب المخطط للدولة من النشاط الاقتصادى لصالح القطاع الخاص أجنبى ومصرى، بالتخارج من قطاعات عديدة وتصفية شركات متعددة وطرح أصول للخصخصة تصل إلى ٤٠ مليار دولار ، وتحجيم دور الدولة حتى فى القطاعات الخدمية الأساسية المنصوص عليها دستوريا كالتعليم.
ثانيا – أشارت تصريحات رئيس الوزراء إلى تقديراته الخسائر المحتملة لمصر من الحرب الأوكرانية والموقف الدولى ، وقد جائت تلك التقديرات فيما نرى مبالغا فيها بشدة ، للتغطية فيما يبدو على الأوضاع المتردية أصلا بفعل السياسات الحكومية الصندوقية المشتركة فى الفترة الماضية . فرئيس الوزراء يتحدث عن أعباء قدرها بنحو ١٣٠ مليار جنيه تأثيرات مباشرة للأزمة الأوكرانية الروسية ، نتيجة زيادة أسعار السلع ( القمح والوقود ) و٣٣٦ مليار جنيه تأثيرات غير مباشرة ، فسرها بأنها لمواجهة التداعيات غير المباشرة مثل زيادة الأجور والمعاشات ودعم السلع . تلك إذن ٤٦٥ مليار جنيه أعباء إضافية للحرب وفق قوله . ومن غير الصعب أن نرى فى مثل تلك الأرقام الجزائية ازدواجية فى الحساب ، فبعد أن حسب آثار ارتفاع السلع التى زادت بفعل تلك الحرب ، عاد يضم معها أيضا زيادة الأجور والمعاشات نتيجة ، وهو فيما نرى بند آخر ليس له علاقة بآثار الحرب . ازدواج واضح ومبالغ فيه للغاية . ثم أن مايتحدث عنه أصلا من زيادة فاتورة القمح والبترول غير دقيق أصلا . فالبيانات المتاحة عن الميزان التجارى البترولى لمصر تشير لأن مصر تضررت وأيضا استفادت من زيادة أسعار البترول والغاز ، لأنها دولة مستوردة ومصدرة أيضا ، وهذا مايتجاهله عرض مدبولى ، كما أن استفادتها أكبر من تضررها ، رغم أنه يتذكر هذا تماما حين يتحدث عن طفرة فى الصادرات وصلت معها وفق قوله إلى ٤٥ مليار دولار .
ثالثا – الأزمة تعود فى جذورها لسياسات الحكومة وعجزها وعجز برنامجها مع الصندوق عن إحداث تحول حقيقى فى الهياكل الإنتاجية لمصر لصالح القطاعات الإنتاجية والصناعية والتصديرية، واستمرار اعتماد الإقتصاد على عدد محدود من المصادر الهشة والريعية ، كالقروض الخارجية ، و تحويلات العاملين فى الخارج ، والأموال الساخنة التى تسعى للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع للغاية فى مصر إذا وجد . وقد تجاوزت مصر المرحلة السهلة فى الاقتراض الخارجى بعد أن وصلت مديونيتها إلى ١٤٥ مليار دولار ، وأصبحت الحكومة مضطرة للدخول للاقتراض الخارجى الصعب من زاوية ارتفاع التكلفة، وتزايد المشروطية ، سواء بسندات دولارية بسعر من بين الأعلى فى العالم ، أو رفع سعر الفائدة المحلية فى محاولة عبثية لإعادة جذب ما يسمى الأموال الساخنة التي اعترف مدبولي بتخارج ٢٠ مليار منها من مصر فى الشهور الماضية. وجدير بالذكر أن رفع سعر الفائدة أول أمس وحده بنقطتين مئويتين سيكلف الخزانة المصرية حوالى ١٠٠ مليار جنيه فوائد إضافية، وهو ما يزيد عن ارتفاع أسعار السلع بسبب حرب أوكرانيا.
رابعا – نتيجة لذلك فقد أصبحت المديونية الحكومية الكبيرة تمثل مشكلة حقيقية تثير القلق ، ولا تجدى فى معالجتها التطمينات التقليدية التى تقول انها مازالت فى الحدود الآمنة . وبالأخص فإن الديون الخارجية قد تضاعفت منذ عام ٢٠١٠ أكثر من أربع أمثال من ٣٣.٧ مليار دولار فقط إلى ١٤٥ مليار دولار حاليا . واذا كانت كنسبة من الناتج المحلى الإجمالي فى حدود ٤٠ فى المائة فقط ، فإنها وبإضافة الدين الداخلى تتجاوز النسبة ٩٠ فى المئة، وهى تفوق المعدلات الآمنة . وبينما تقول الحكومة إنها تستهدف خفض نسبة الديون للناتج المحلى إلى ٧٥ فى المئة فقط مع عام ٢٠٢٦ ، فإن ذلك مشكوك فيه للغاية فى ظل مايعلن عنه من مخططات لاقتراض ٧٣ مليار دولار إضافية عن طريق بيع سندات حكومية دولارية .
وفى ظل ذلك الوضع فإن أهم سمة تميز الديون المصرية ليس فقط نسبتها للناتج المحلى الإجمالي بل ارتفاع تكلفة خدمتها نتيجة الاقتراض بسعر فائدة مرتفع خارجيا وداخليا ، ولذلك تزايدت فوائد الديون وأصبحت أكبر بند يستنزف موارد الموازنة العامة للدولة ،. وقد قدرت فوائد الديون فى موازنة ٢٠٢١ – ٢٠٢٢ ب ٥٧٩ مليار جنيه ، وباضافة اقساط الديون وقدرها ٥٩٣ مليار يكون إجمالى خدمة الدين ١.٣٦٥ مليار بما يساوى ٨٦ فى المائة من إيرادات الموازنة . ومن المقدر أن تتزايد فوائد الديون فى موازنة ٢٠٢٢ – ٢٠٢٣ بنسبة كبيرة تصل إلى ١٩.١ فى المئة لتبلغ ٦٩٠ مليار جنيه ، وذلك لمواجهة قرارات رفع سعر الفائدة، بما يوضح أننا بالفعل فى حلقة مفرغة من الديون والفوائد .
خامسا – الحديث عن إنجاز فى مجال الصادرات بتجاوزها ٤٠ مليار دولار العام الماضى ، يتجاهل تزايد الواردات بدرجة أكبر ، ومن ثم استمرار تزايد عجز الميزان التجارى الذى وصل فى عام ٢٠٢١( اى قبل الحرب الأوكرانية ) إلى حوالى ٤٤ مليار دولار ، لأن الواردات السلعية غير البترولية وصلت إلى ٧٦.٧٩٨ مليار دولار. هذا بينما حقق الميزان التجارى البترولى فائضا فى النصف الثانى من عام ٢٠٢١ وصل إلى ٢.١ مليار دولارا لارتفاع صادرات البترول والغاز لما يقارب ١٢ مليار دولار ، بما يعنى عدم تضررنا من زيادة أسعار البترول ، وهو ما أشار رئيس الوزراء لعكسه .
سادسا – حديث رئيس الوزراء ووزير التخطيط عن النجاح فى خفض نسبة البطالة من ٧.٤% فى الربع الأول من العام الماضى إلى ٧.٢% فى الربع الأول من العام الحالى ، يثير شكوكا قوية لأسباب ظاهرة للغاية . فببساطة رئيس الوزراء يتحدث عن أن قوة العمل وصلت إلى ٢٩.٨٩ مليون شخص فى العام الحالى بينما كانت نحو ١٩ مليون فقط فى عام ٢٠٠٠ . فلنلاحظ هذا المعدل للزيادة السنوية واعداد الداخلين الجدد لسوق العمل سنويا ، لكن قوة العمل سجلت فى السنوات الأخيرة زيادة محدودة غير مفهومة بل أحيانا انخفاضا ، وهذا مستحيل على ضوء ما يقرب من مليون من الداخلين الجدد للسوق سنويا . فقوة العمل التى كانت قد وصلت إلى ٢٩.٠١٨ مليون فى عام ٢٠١٧ مازالت فى عام ٢٠٢٢ اى بعد خمسة سنوات عند مستوى ال٢٩ مليون ! لا يوجد سوى تفسير واحد وهو فى جانب منه بالمناسبة معلن عنه من سلطات الإحصاء ، وهو إنها بدلا من أن تضيف ملايين الأشخاص إلى اعداد المتعطلين ، تقوم بالعكس فى سابقة غير معمول بها فى اى دولة بحذفهم من قوة العمل بدعاوى غير مقنعة ، وبالتالى ينخفض معدل البطالة بشكل مصطنع . لابد من شفافية وتدقيق ومراجعة للبيانات حتى تكون معبرة بشكل صحيح عن الواقع
سابعا – يتحدث رئيس الوزراء ووزيرة التخطيط عن التضخم ، ورغم الاعتراف بخطورته، فإنهما يشيران دائما للتضخم العالمى وأن التضخم مميز لكل الدول فى ظل الأزمة الراهنة . وفى الواقع فإن ذلك يخفى الفوارق الكبيرة بين التضخم فى مصر وفى البلدان الأخرى من عدة زوايا . فمن ناحية فالمصريون يعانون من تضخم ممتد لسنوات طويلة تصل لحوالي عشرة سنوات ، وبلغ فى بعض السنوات ذروة فاقت ٣٣ % ، وهو من الأرقام غير المقبولة نهائيا ، هذا فى الوقت الذى كان التضخم فى الدول الأخرى لا يتجاوز اثنين فى المئة. ومن ناحية أخرى فالمعدل الحالى هو ١٥ % ، وهو أيضا من المعدلات بالغة الارتفاع كما أنه مرشح لمزيد من التصاعد فى ظل وضع مصر الاقتصادى الهش الحالى ، ورفع أسعار الفائدة جريا وراء الأموال الساخنة ، واحتمالات قوية لمزيد من خفض سعر صرف الجنيه فى مواجهة الدولار . وبالتالى فإن استمرار السياسات الراهنة لن يعالج الأمر ، وسيستمر تدهور مستوى معيشة غالية المصريين ، ويستمر التضخم مبرهنا أن السياسات المتبعة كلها بعكس مايروج لها ليست سياسات مناهضة للتضخم بل سياسات محفزة له بقوة .
ثامنا – استمر رئيس الوزراء فى الدفاع عما يسمى المشروعات القومية ، المعروف إنها فى الغالب مشروعات غير منتجة بددت وأهدرت مليارات القروض فى مشروعات لا تقدم إضافة حقيقة للإنتاج القومى، وبالتالى تتسبب بشكل مؤكد فى التضخم ، ورفض مدبولي الانتقادات المطالبة بوقفها وإعادة النظر فيها .
ونلاحظ هنا أن مفهوم تلك المشروعات القوميةوتعريفها فى استخدامه لها غير محدد بدقة، فهو يستغرق فى الحديث أحيانا عن مشروعات الغاز والكهرباء ، فى حين أن المقصود أساسا بتلك المشروعات هو مايسمى العاصمة الجديدة والعلمين الجديدة وأشباهها ، والطرق والكبارى ، والمونوريل والقطار السريع والكهربائى، وتوشكى العقيم ، والإسراع فى توسعة قناة السويس بتبديد العملة الصعبة سابقا وخلافه .
من الملاحظ أن ما رفضه رئيس الوزراء إنما فرضه الواقع عليه ، بإقرار عند سؤاله من الصحفيين، أنه نتيجة لتداعيات الأزمة الاقتصادية قد نتج تباطؤ فى معدلات تنفيذ المشروعات لفترة زمنية ، وهو أمر فى حد ذاته كاشف لعمق المأزق الراهن وفشل السياسات الاقتصادية الحكومية .