رحاب إبراهيم تكتب: الأرنب لأ.. (إبداعات)
منذ أن أدخل عمر لعبة الأسماك إلى البيت تغيرت حياتي تماما .
أعود إلى المنزل فأصيح مطالبا زوجتي بإعداد شطائر للغداء بدلا من أطباق الرز والخضار, أبدل ملابسي على عجل وأجلس إلى جهاز الكمبيوتر.. يد على الماوس والأخرى تمسك بالأكل.. أصيح بين قضمة وأخرى “أيوة .. يوووة.. ليه بس كده ؟ “
السمكة أم بوز, طبعا هي عبد الفتاح.. بوزه يمتد ليتشمم كل ما حوله, يدسه في عينيك وكلامك وجيبك, ولو طال لدسه في قلبك أيضا, وليته يكتفي بدسه في صمت, ولكن هذا البوز يرشح دائما بالكلام, يقطر هنا وهناك, تمر من المكان فتدرك إن عبد الفتاح كان هنا.
السمكة الخضراء الصغيرة المسممة هي فتحية.. فتكات كما أحب أن أسميها” بيني وبين نفسي طبعا “تجدها أمامك فجأة , وقبل أن تدرك ما حدث تكون قد ابتلعت السم, كلمة منها تبدو عابرة لكنها في الحقيقة مسددة لهدف ما بإحكام, تظل تفكر فيها لعدة أيام واضعا عددا لانهائيا من الاحتمالات.. هل كانت تقصد عقابا ما في الطريق إليك.. خطأ ارتكبته دون أن تنتبه.. شائعة ما تدور حولك دون ان تصل إليك.. وهكذا.
تشل حركتك لعدة دقائق في اللعبة, ولعدة أيام في الواقع.
الغريبة أن كل مرة أقرر تجنبها تظهر فجأة.. أبتلعها, أصاب بالشلل وتظهر فوق رأسي علامة خضراء .
حمدي بيه طبعا هو القرش الكبير, قبل مروره تظهر على الشاشة علامة تعجب لتنتبه, وعلامة التعجب هذه هي الأستاذ حسنين, ببدلته الرمادية القديمة ذات الجيوب الكثيرة.. هذه الجيوب التي تخفي الكثير, وكله يظهر في الوقت المناسب.
أما حمدي بيه فمدير مثل مديري أفلام الستينات, بكرشه الضخم وشعره الخفيف ونظارته السميكة, يتهادى خابطا كل قدم على الأرض كأنه يقول أنا هنا.
باقي الأدوار توزع بالعدل على بقية الموظفين..
نبيهه “التي ترفع شعار: ممنوع الاقتراب أو التصوير أو الكلام أو الهمس أو الأكل أو ….
والسمكة ذات الدخان “سليم” الذي يهرتل بكلام كثير لا يصفو على شيء.. السمكة الفضية اللامعة “رانيا” طبعا.. الله عليها.. وهكذا
ينبغي أن تأكل 30 سمكة مثل سليم كي تكبر درجة واحدة فيصبح بإمكانك التهام أنواع أكبر كانت تصيبك بالرعب سابقا وتجعلك تفر من أمامها مثل ” نبيهه ” أما عبد الفتاح فلكي تتمكن منه ينبغي عليك التهام 50 سمكة بحجم نبيهه .. فتكات الوحيدة التي ليس لها حل.
يأتي عمر من المدرسة ليشاركني اللعب , يظل يرتقي في المستويات بسرعة تذهلني ..يدور ويراوغ ثم ينقض , يكبر في دقائق ما أكبره أنا في ساعتين من اللعب المتعرق .. هل آخذه معي إلى العمل ؟ ابتسم للفكرة.
هو لا يفكر أبدا في ضرورة أخذي للمدرسة ..المرة الوحيد التي ذهبت فيها إليه بدا وكأنني أنتقص من رجولته ..هذا السفروت البالغ من العمر ثمان سنوات
الزي الموحد جعل الأولاد مموهين .. ككرات البلي الصغيرة المنتشرة في الحوش . لم أستطع تبينه , على الجانب الأيسر من البوابة كان هناك شباك صغير يتدافع نحوه الأطفال باستماته كأنهم يريدون المرور من خرم إبرة , اطلت النظر , كان هذا هو المقصف , وأيديهم الصغيرة تمسك بالنقود بشدة وتتشابك كل منها تريد الوصول أولا .. لم يكن وسطهم , تذكرت اني لم أعطه نقودا ..
– وماله أكل البيت يعني ؟ تقول امه
– نشتري لك كل ما تحتاجه .. أقول أنا
لا يرد , ولكن عيناه تتجولان بيننا بصمت كأنها تقول : جتكم القرف !
أعاود البحث .. الزي رمادي كأن لا لون له .. صخبهم هنا مختلف عن صخبهم في الملاهي مثلا .. ربما الألوان تمنحهم قوة ما .. وجدته أخيرا جالسا وسط حلقة من زملائه يأكلون شطائرهم , بدا هادئا على غير عادته في البيت ..
أطال النظر إلي كأنه شك في شخصيتي أو ربما شك في المكان الذي هو فيه .. ف بابا والمدرسة لا يصح أن يجتمعان في رأيه .
كنت أظنه سيشعر بالزهو كوني أسأل عنه , ويجري إلي مشيرا لأصدقائه بفخر : بابا
– انت جيت ليه؟
ارتبكت … -باسأل عن بقية المصروفات ..مش عايز حاجة ؟
– لأ
قالها كأنه يريدني أن أختفي حالا بينما ظل زملاؤه يحدقون في..
غادرت مسرعا بعد ان دفعت بقية المصروفات , تخيلت نفسي وعبد الفتاح ونبيهه وفتكات وسليم ورانيا بزي موحد نجلس متحلقين وفي أيدينا دفاتر العمل والشطائر .. حمدي بيه طبعا سيقف في المقصف … وجدتني أقهقه بصوت عال.
رجعت إلى لعبة الأسماك أسلي نفسي حتى تجهز زوجتي الغداء , بعد فترة من عدم شم أي روائح تبينت عدم وجودها , تذكرت انها أخبرتني بالأمس وأنا نصف نائم انها ستذهب منذ الصباح عند أمها لأن خالتها سوسو رجعت من الإمارات , ولن تأخذ عمر طبعا لنه ” بيجنني ويبهدلني ويطلع عيني قدامهم “
كانت تقول كل شيء بلهجة تقريرية كأن الأمر قد حسم , وقد كان محسوما بالفعل ,فلم أعتد رفض أي طلب يتعلق بحماتي – الوالدة باشا – كما أسميها , وإلا سينعكس ذلك على حياتي ثلاثة ..أربعة أشهر أو يزيدون .
كانت آخر جملة سمعتها قبل أن تأخذني سحابة النوم عاليا ” معلش .. ابقوا كلوا أي حاجة “
وقفت امام الثلاجة طويلا .. تونة أو مكرونة ؟؟؟ رجحت كفة التونة التي لا تحتاج إلى تسخين .
– يا بابا كفاية بقى لعبة الأسماك دي وتعال نروح الملاهي
قالها عمر مع آخر قضمة في ساندوتش التونة
والله فكرة ..نهب ونمر على أحد مطاعم الوجبات السريعة .. ” هي قالت كلوا أي حاجة ..والميزانية خربانة خربانة .. إبقي خلي سوسو تنفعك “
بعد لعبتين شعر عمر بالجوع , ذهبنا وأضرت له وجبة الأطفال معها هدية بلاستيكية لا تسوى قرشا لكنها أسعدته جدا . أخذت وجبتي وجلسنا .. في الركن جلس أحد العاملين يرسم وجوه الأطفال بألوانه ليخرج كل منهم بعد دقائق وقد حمل وجه قط أو دب أو فراشة …
جذبني عمر نحوالرجل .. حين لمح ترددي ركز في عيني بدهاء
– هنغسلها كويس قبل ما نروح .. ماما مش هتعرف
سرت معه لا إراديا وانا أفكر أي وجه سأختار .. اختار هو الأسد سيمبا بينما وقفت مترددا .. أشار إلى وجه الأرنب : لطيف قوي
– لأ … الأرنب لأ
بعنف أدهشه وأدهشني كذلك وجدتني أرد ..
أضفت بصوت حاولت أن أجعله ضاحكا – مش باحب شكل الأرنب .. لم يكن باقيا سوى القرد .. أشرت إليه – ده أحلى
نظر إلي كما لو كنت مجنونا ..بالفعل كان القرد يبدو أبلها لكني رغم أي شيء لن أقبل بالأرنب
انتهى الرجل منا في دقائق , وقف عمر امام المرآه مزهوا .. عموما القرد يستطيع تسليك أموره .
– بابا ..شوف ..سبيدر مان ..صاح عمر
كان الشاب المرتدي قناع الرجل العنكبوتي يتقافز يمينا ويسارا , يدع الأطفال يلتقطون الصور معه بجوالات آبائهم .. يخرج ليدعو الأطفال المارين من امام المطعم للدخول .. ويدخل ليكمل قفزاته المرحة .. تابعت الولد الضخم – سمكة البطيخة – الذي يمشي خلف الرجل العنكبوتي بإصرار ويقفز محاولا الوصول لوجهه بينما الشاب يراوغه وقد بدا عليه الضيق , في لحظة خاطفة نجح الولد البطيخة في نزع قناع الشاب ليظهر وجهه الغاضب للحظات قبل أن يشد القناع بعنف ويختفي خلف الكاونتر
– بابا .. هو راجل واللا سبيدر مان اللي في التليفزيون ؟
– راجل لابس قناع سبيدر مان
– يعني راجل عادي واللا سبيدر مان؟
– مانت عامل وش أسد , وانا عامل وش قرد .. ابقى انا راجل واللا قرد؟
ابتعد عمر خطوتين.. هز كتفيه وأخرج لسانه قائلا : قرد طبعا
وطلع يجري
اندفعت نحوه محاولا تسديد لكمتي إليه , لكنه انفلت وانا أصيح : إمشي يا إبن القرد