راجي مهدي يكتب: حول سمير أمين في ذكرى وفاته
في 12 أغسطس 2018 توفى المفكر المصري سمير أمين عن عمر يناهز 87 عاماً. أمين الذي وُلِد لأب مصري وأمٍ فرنسية، تأثر سريعاً بمشاهد الفقر والبؤس التي رآها بعينه في جولاته في المدن المصرية مع والديه اللذان امتهنا الطب. وفي عصر صعود الماركسية والقومية، حسم اختياره للماركسية ليبدأ مشواراً طويلاً اكتسب خلاله شهرة عالمية كأحد ألمع مثقفي العالم الثالث وماركسييه.
كانت الماركسية الرائجة هي ماركسية الاتحاد السوفييتي وطبعتها المدرسية الجامدة التي تكلست في الدولة ومؤسسات الحزب، وكان الماركسيون العرب ينقلون حرفياً رؤى الكوادر النظرية السوفييتية ورؤى ستالين وشروحاته ليطبقوها حرفياً على الأوضاع العربية المعقدة. غير أن أمين قد اختط لنفسه طريقاً ينبع من فهمه للماركسية كأداة تحليل علمي تعتمد على المادية الجدلية، أداة تفتح آفاق فهم العالم في كليته وفهم خصوصيات التطور الاجتماعي في البُنى الاجتماعية المختلفة.
لقد كان دائم التأكيد على أن الماركسية هي نظرية بلا ضفاف، لا بمعنى غياب حدودها وتمايزها، بل بمعنى أن ماركس لم يحاول تفسير العالم مرة واحدة وللأبد، بل إنه وضع اللبنات الأولى وطبق منهجه التحليلي على الرأسمالية الأوروبية واكتشف القوانين الموضوعية العامة الحاكمة لتطور الرأسمالية لكنه لم يحاول وضع نظرية تشمل التجليات الخاصة لهذه القوانين العامة في مختلف الشروط التاريخية.
وقد انطلق الراحل سمير أمين في رؤيته من مصر، كبلد طرفي يدخل ضمن مجموعة بلدان سُميت في الأدبيات الأوروبية ببلدان “العالم الثالث”، بينما يشير إليها سمير أمين في علاقتها بمركز الرأسمالية العالمية كبلدان طرفية تمثل الجنوب العالمي الذي يشمل إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا كبلاد خاضعة لعلاقات سيطرة واستغلال إمبريالي فرضتها بلدان المركز/الشمال العالمي المتجسد في الولايات المتحدة وغرب أوروبا واليابان.
وقد ركز في تحليله على العلاقات التي تربط بين المجموعتين، علاقات تبعية الجنوب للشمال والتي جعلت فائض قيمة العمل وتراكمه يسري من الأطراف إلى المركز ليخلق تطوراً لا متكافئ بدأ منذ نشأة الرأسمالية في أوروبا يخلق باستمرار اختلالاً بنيوياً في بلدان الأطراف التي تحولت بمرور الوقت إلى مصدر للمواد الخام وأيدي العمل الرخيصة وتصدير رؤوس الأموال وبرزت هذه السمات بوضوح مع تحول رأسمالية المنافسة إلى رأسمالية احتكارية وتحول مركز الثقل في الأخيرة إلى القطاعات المالية.
وقد تبنى أمين فكرة يرتكز عليها مشروعه الفكري تقول بأن علاقات التبعية تلك قد حكمت على بلدان الأطراف بتخلف هياكلها الاقتصادية وتشوهها، كما حكمت عليها باستحالة اللحاق بالغرب على طريق التطور الرأسمالي، ليتبنى فكرة “فك الارتباط” أوتبني نمط تنمية متمحور حول الذات بمعنى تغيير البنية الاقتصادية التي تم تطويعها لخدمة التراكم الرأسمالي في الغرب، وهي البنية التي تجعل اقتصادات البلدان الطرفية خاضعة لمتطلبات هذا التراكم وأزمات النظام الدورية. فالرأسمالية بدأت استعمارية، وعبر استعمارها للعالم حققت ما سُمي تبسيطاً “التراكم البدائي” لرأس المال. تلك القفزة الأولى التي تمثلت في استعمار الأمريكتين وصيد العبيد في افريقيا وغزو الهند وغيره قد أطلقت التفوق الرأسمالي الغربي الذي يتوقف استمراره وإعادة إنتاجه على إبقاء تلك المستعمرات السابقة والبلاد الطرفية في تبعية كاملة، وهي تبعية تعيد إنتاج نفسها لا يُسمح فيها بتصنيع بلدان الأطراف بل إبقاء طابع اقتصادها الزراعي وحصرها في تصدير المواد الخام الذي يجعلها عرضة لشروط تبادل لا متكافئ وفروق أسعار تولد ما سماه أمين بـ”الريع الإمبريالي”.
إن هذا التحليل الذي أدى به لتبني فكرة “فك الارتباط” إنما عنى به التأكيد على أن الرأسمالية الطرفية تابعة ومشوهة ولن تحقق اللحاق بالغرب لأنها تفتح قلب الاقتصاد الوطني ليسيل منه الفائض ولتدخل إليها مختلف تأثيرات السياسات النقدية التي تصيغها المؤسسات الدولية والبنوك المركزية والتي تهدف إلى نقل أعباء التباطؤ والركود والأزمات إلى بلدان الأطراف.
وقد تصدى سمير أمين لسؤال تاريخي لازال مثار خلاف وجدل وهو: لماذا نشأت الرأسمالية في أوروبا تحديداً؟ وفي تصديه للإجابة على هذا السؤال تعين عليه نقد ما سماه بالتمركز الأوروبي الذي قدم إجابته على هذا السؤال في إطار الرواية السائدة عن التفرد الأوروبي والفروقات الثقافية بين الغرب والشرق، وكان لزاماً على سمير أمين وهو يتصدى لهذه النظرة أوروبية المركز التي تحتوي على خليط من العنصرية والثقافوية أن يوجه نقداً لتيار ماركسي تبنى نظرية المراحل الخمس التاريخية الشائعة والتي صاغها ستالين في شكل مدرسي يقول بتعاقب تشكيلات اجتماعية خمس: المشاعية – العبودية – الإقطاع – الرأسمالية – نهاية بالانتصار المحتوم للاشتراكية. من وجهة نظر أمين ليس هذا التتابع واقعياً، فمن جهة يتجاهل هذا التتابع مراحل انتقالية طويلة كما يتجاهل أن الاشتراكية ليس خياراً حتمياً إذ أن البشرية قد تواجه خطر الفناء أو الارتداد إلى البربرية في حال لم تستطع البشرية فتح الطريق إلى الاشتراكية مجدداً. غير أن النقد المركزي لهذه النظرية تمثل في تقديمه نموذج بديل يقسم أنماط الإنتاج التاريخية إلى نمط مشاعي ونمط إنتاج خراجي ونمط رأسمالي، وهو يعتبر أن الإقطاع الأوروبي كان شكلاً أوروبياً غير مكتمل لنمط الإنتاج الخراجي المكتمل في الشرق. ومن هذه الأطروحة ينطلق للتأكيد على أن الانتقال إلى الرأسمالية كان حتمياً أن يحدث حيث لم يكن النمط مكتملاً، بمعنى عدم رسوخ الأبنية الأيديولوجية، ومن جهة أن الدولة الإقطاعية لم تكن مكتملة التكون وبالتالي لم يكن الفائض متمركزاً ما أتاح للتناقض بين البرجوازية الصاعدة والإقطاعيين أن يعبر عن نفسه بحرية أكبر. على عكس مجتمعات الشرق التي يصفها أمين بأنها كانت مجتمعات أكثر ثباتاً لأنها أنجزت الكثير على المستوى الأيديولوجي حيث يعتبر أن حضارات الشرق القديمة كالصين والحضارة المصرية القديمة والامتدادات الهلينية ثم المسيحية ثم الإسلام كان تعبيراً عن التفوق الحضاري الشرق في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في الهمجية وعصور الظلام قبل أن تشهد عصر الأنوار. وهو في هذا الإطار يسجل ملاحظة مهمة وهي دور الأيديولوجيا المركزي في النمط الخراجي باعتبار أن الاستغلال في هذا النمط كان بسيطاً ويتمتع بشفافية شديدة ما حتَّم هيمنة الأيديولوجيا في كافة أشكالها لضمان استقرار العلاقات القائمة فيه وإعادة إنتاجه، بينما تراجع دور الأيديولوجيا نسبياً في النمط الرأسمالي باعتبار أن الاستغلال اختفى خلف سيادة القيمة التبادلية وعلاقات السوق وبالتالي صار اكتشافه أكثر صعوبة وصارت الحاجة للأيديولوجيا أقل أهمية.
من هذه الفرضية – فرضية اكتمال وعدم اكتمال الأنماط – يطرح سمير أمين فرضية متعلقة بالتطور التاريخي التالي للرأسمالية، ففي تقديره أن الرأسمالية قد شهدت شكلها المكتمل في أوروبا والولايات المتحدة بينما لم ولن تكتمل في البلاد الطرفية ما يطرح بقوة احتمال أن يصعد البديل التاريخي من قلب تلك البلاد الطرفية، بسبب من ضعف التراكم وهشاشة التحالفات الطبقية القائمة فيها، بالإضافة إلى حدة التناقضات الاجتماعية والتناقضات الوطنية وانسداد أفق التطور الرأسمالي أمامها.
لم ينخرط سمير أمين لفترة طويلة في المنظمات الشيوعية، فباستثناء فترة الدراسة في فرنسا والتي انضم فيها إلى الحزب الشيوعي الفرنسي الذي هجره لالتزامه بماركسية دوغمائية سوفييتية، وباستثناء مساهمته في تأسيس الحزب الشيوعي المصري مع فؤاد مرسي واسماعيل صبري عبدالله حيث صاغ بعضاً من وثائقه الأولى، فقد حرر نفسه لجهد نظري هائل وضع نصب عينيه إثبات أن التبعية ليست قدر بلاد الأطراف بل هي نتيجة مباشرة لاستغلال المركز الرأسمالي، بالإضافة إلى هذا فإنه وضع جهداً هائلاً لصياغة نظرية ماركسية للثقافة، باعتبارها أحد أعمال ماركس غير المنجزة دافعاً عن الأخير تهمة التمركز الأوروبي ومعتبراً أن ما ورد في بعض كتاباته عن نمط آسيوي للإنتاج ساد في بلاد الشرق هو نتيجة عدم توافر معلومات عن تاريخ تلك المجتمعات وأن ما أنجزه لم يكن سوى ملاحظات أولية.
بالإضافة إلى ذلك كان سمير أمين يعتبر التيارات الدينية في العالم العربي تجليات لتمركز أوروبي معكوس بمعنى أنها ترديد مقلوب لدعاية الخصوصية الأوروبية التي ردت جزء من تلك الخصوصية إلى تمركز المسيحية في أوروبا، وهو في هذا الصدد يؤكد أن المسيحية كالإسلام، أديان نشأت وتبلورت في الشرق لا في أوروبا. في رأيه تقوم تلك التيارات بمقابلة الخصوصية الأوروبية المسيحية بخصوصية إسلامية تلتقي معها في النهاية على أرضية الحفاظ على الرأسمالية.
من جهة أخرى كان سمير أمين على عكس غالبية رفاقه العرب ينظر نقدياً للماركسية السوفييتية التي وصف طروحاتها النظرية بالتحريفية خصوصاً مقولات كالتطور اللارأسمالي التي أنتجها المنظرون السوفييت لإضفاء مشروعية نظرية على تحالف الاتحاد السوفييتية مع أنظمة البرجوازية القومية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد أشار إلى أن ستالين كان قد استهدف أساساً اللحاق بالغرب الرأسمالي، وهو ما أنتج التشوهات التي مست جوهر التجربة السوفييتية وأدت في النهاية إلى انهيارها نافياً عنها صفة الاشتراكية معتبراً أنها كانت أقرب لنمط التنمية “الدولانية” – المتمركز حول الدولة – المتمحور على الذات، وأن المطلوب ليس اللحاق بالغرب بل تأسيس نمط تنمية ديمقراطي وإنساني مناقض للرأسمالية واستلابها السلعي.
في نهاية حياته كان سمير أمين داعية متحمساً لإقامة أممية خامسة، لتحالف اجتماعي جديد في بلدان الجنوب الطرفية لإقامة عولمة بديلة شعبية وديمقراطية حقاً وأن نجاح هذا التحالف هو الشرط الرئيسي لمواجهة العولمة الإمبريالية الأمريكية وميولها التدميرية التي تهدد بقاء الكوكب بأكمله.
هذا العرض السريع للأسس التي قام عليها مشروع سمير أمين الفكري لم يتضمن جل ما قدمه الرجل بل إضاءة على بعض من إسهاماته النظرية كـأحد ألمع المفكرين العرب والتي قدمها في عشرات الكتب والدراسات والمقالات تناول فيها بالإضافة إلى ما سبق موضوعات التراكم الاقتصادي ومسائل المادية التاريخية كالطبقة والأمة وغيرها.