راجي مهدي: المقاومة الفلسطينية في مواجهة العالم
كاتب ومترجم وصيدلي مصري
هناك إرادة سياسية في المنطقة تقضي بتصفية المقاومة الفلسطينية، تصفية السلاح الفلسطيني كهدف استراتيجي للحلف الرجعي العربي الإسرائيلي بمظلة إمبريالية نشطة جداً، لا يجب الاستسلام لأي أوهام مغايرة. الواقع يقول أن هناك قرار جرى تمريره عبر عواصم عربية، من القاهرة إلى الرياض إلى الدوحة إلى عمان إلى أبوظبي، وهو قرار يتمظهر في ألحان متنوعة عزفتها تلك العواصم عبر ستة شهور من المقتلة.
فكرة المقاومة المسلحة مخيفة في منطقة تعوم على بحر من التناقضات، لأنها تضع السلاح بأيدي خارجة عن الرقابة والسيطرة لهذا الحد أو ذاك، مستعدة لإرباك التسويات القائمة أو المزمعة، وهي مفتوحة دوماً على احتمال وصول السلاح إلى تنظيمات راديكالية مع كل إخفاق أو تردي، فهزيمة الثورة الفلسطينية في بيروت، بمكونها الماركسي-القومي، نقلت السلاح إلى أيدي الأصوليين، هزيمة تلك النسخة تفتح على احتمالات تبلور قطب أو نقل مركز ثقل المقاومة إلى اليسار من جديد!
إن الهدف الاستراتيجي إذن هو كسر الشعب الفلسطيني الذي ظل عامل تهديد دائم وشامل لكل مفاعيل الاستسلام في المنطقة على مدار 50 عاماً، فالمنطقة التي ركعت ظل السؤال الذي يؤرق الراكعين فيها والمركوع لهم: ماذا عن الفلسطينيين؟ كتلة بشرية فشلت كل محاولات تحجيمها، لذا يراد الآن كسرها، شرذمتها، تدمير نواتها، بحيث لا تبقى لديها قدرة جديدة على الرفض!
غير أن كسر تلك الكتلة الذي هو هدف معلن عبر شهور القتال والقتل والذبح سوف يفضي عكس ما يظن المتآمرون إلى تجذير نضالات شعوب الطوق، ودفعها من جديد، فإذا انهار الوجود الفلسطيني تحت ضغط المجزرة والمؤامرة، فإن الشعوب العربية سوف تعود يوماً ما ليس ببعيد، لتحمل بنفسها عبئ معركة كان يقال فيها أن فلسطين يحررها الفلسطينيون، ولا بأس من دعمهم، وإن كان من الأفضل ألا نكون طرفاً، لكننا الآن بصدد احتمال تفتيت التجمع الفلسطيني، لكنه تفتيت لن يطول، وإلى أن يستعيد الفلسطيني اجتماعه، فإن الشعوب العربية سوف تصبح فلسطينية بهذا القدر أو ذاك، وستحمل الهوية الفلسطينية، هوية المقاتِل وهوية المطارَد، مقاتلٌ لأنه عبر الممارسة يواجه نفس الحلف الذي قاتله الفلسطيني، حلف النهب والتجويع والردة، هذا الحلف الذي إن خرج من المعركة الحالية وقد فرض إرادته عبر سحق الإرادة الفلسطينية، فإنه منتشياً بنشوة الظفر شديد الكلفة، سوف يمتطي مجنزراته ليستكمل سحق الشعوب العربية، سحق قوتها وإرادتها، لا في حرب البارود والنار دوماً، لكنه قد يمتطي مجنزرة اسمها صندوق النقد الدولي ليطارد بالقرض والتقشف شعوب تلك المنطقة، كما طورد الفلسطيني بالسكاي هوك وال إف 35 والميركافا، هكذا نصبح مطاردين من حلف رجعي يقوده الإمبرياليون في واشنطن ولندن وبرلين وينوب عنهم عملياتياً مجتمع المطاريد الصهيوني وهيئة أركانه الفاشية.
سوف يعود الفلسطيني “تثويرياً” لشعوب طال سباتها، وسيعود مفهوم دول الطوق للتبلور، فيستعيد شعار “الطريق إلى فلسطين يمر عبر جونيه” قوته وتجسده، فتصبح جونيه هي كل عاصمة عربية وكل ميناء عربي وكل نقطة حدود عربية مع الأرض المحتلة، غير أن هذا لن يكون استعادة جديدة لتراث قديم، بل سيكون في إطار نقدٍ منهجي لمسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني منذ صار ظاهرة بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وانطلاقة الثورة الفلسطينية في 1965، نقد لعلاقاتها بالأنظمة العربية والجماهير العربية ونقد لممارسة التضامن العربي ذاته ونقد مفهوم التضامن في حد ذاته باعتباره مفهوم باطل لا يمكن توظيفه في معركة واحدة عبر ساحات عديدة.
فالقتل الذي تمارسه آلة الحرب الصهيونية هو الوجه الدموي الصريح لهجوم مستتر ومموه يمارسه صندوق النقد الدولي بمعاونة الطغم الحاكمة في بلدان المنطقة، وهما في جوهرهما يمثلان قلب دولاب العمل الإمبريالي الذي يخلق باستمرار أساس انهيارات اجتماعية ينتج عنها بشكل حتمي ولا مناص منه بزوغ حراكات اجتماعية صاعدة، سوف تنتج عبر تراكم خبراتها نقلة نوعية في آليات مواجهة آلة النهب التي تشغلها الاحتكارات المالية الدولية.
أي أن الصهيونية، قد تنجح مجدداً في فرض أمر واقع جديد، التهديد الجدي بتهجير الشعب الفلسطيني في غزة، وهو أمر واقع شديد القساوة من الناحية الإنسانية ومن الناحية الجيوسياسية، لكنه وبخبرة التاريخ لن يكون الهزيمة النهائية أو الحل النهائي. فقد افترض الحلف ذاته أنه بطرد منظمة التحرير من بيروت في 1982 تكون المقاومة الفلسطينية قد خطت السطر الأخير في تاريخ الصراع، غير أن إجابة الشعب الفلسطيني كانت شديدة الحدة، وشديدة المفاجأة بانفجار الانتفاضة في الداخل الفلسطيني، انتفاضة لولا الدور التخريبي الذي لعبه عرفات ما كانت لتؤدي إلى اتفاق أوسلو، بل إلى فرض أمر واقع فلسطيني جديد، غير أن سيادة خطة التسوية أنتجت فأر أوسلو من جبل الانتفاضة، أوسلو التي منحت الفلسطينين حكماً ذاتياً وهمياً لتنزع منهم وحدة نضالهم عبر شق الحركة الوطنية الفلسطينية رسمياً إلى خط سلمي وخط مسلح، وكان مقدراً لأوسلو أن تنزع بشكل مستمر فتيل الغضب الفلسطيني، في ظل غطرسة صهيونية وجموح إمبريالي في عصر ما بعد الانهيار السوفييتي، غير أن وهم أوسلو ما لبث أن كشف عن حدوده بانفجار الانتفاضة الثانية، ليترسخ الدرس الفلسطيني القائل بأن الاحتلال سوف يولد دوماً وفي كل لحظة تاريخية شكل مواجهته.
هكذا يمكننا أن نقول باستقراء موجز للتاريخ الفلسطيني المعاصر، انبثقت المقاومة الفلسطينية بشكلها الحالي من رحم هزائم 1970 في الأردن و1982 في بيروت ونتائج أوسلو المدمرة وانتفاضتين، عقود من الزمن ارتقت فيها المقاومة الفلسطينية تكنيكياً وعسكرياً، في أشكال بنت عصرها وهي بالطبع أشكال لها محدودية تاريخية مرتبطة بجملة من الظروف المحلية الفلسطينية والإقليمية والدولية، تلك المحدودية التاريخية تعني أن حركة المقاومة الفلسطينية بشكلها الحالي سوف تكتسب أشكالاً مختلفة تبعاً للنتائج النهائية للمعركة الحالية، لأن التاريخ يتجه صعوداً، والبرهان على ذلك هو أن عملية 7 أكتوبر هي عملية غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني كله، وإذا كان صمود منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت لمدة ثلاثة شهور قد مثّل في حينه إنجازاً ضخماً على خلفية مقارنة أداء المنظمة بأداء الجيوش العربية في كل المواجهات مع العدو الصهيوني، وبالنظر لأن المنظمة بالتحالف مع اليسار اللبناني قد خاضت في بيروت المعركة وحيدة بشكل تام ودون أي دعم فعلي، فإن أكثر من ستة شهور من القتال الضاري في غزة تؤشر إلى الخط البياني الصاعد للنضال الفلسطيني.
غير أنه من الضروري التأكيد على أن الفلسطينيين يخوضون القتال مرة أخرى في ظل اختلال فادح في موازين القوى، اختلال لا تنفيه المناوشات على الجبهة اللبنانية والعراقية في حين أن قطع اليمنيين للطريق البحري وتعطيل إيلات ذا أثر على المدى البعيد فقط خاصة بفتح الطريق البري عبر دول مجلس التعاون والأردن إلى الكيان الصهيوني. إن هذا الاختلال في ميزان القوى لصالح العدو الصهيوني كان حاضراً في كل المواجهات الفلسطينية الكبرى مع العدو الصهيوني أو حلفائه.
في أيلول 1970 وفي حرب السنتين في لبنان، في عملية الليطاني 1978 واجتياح 1982 وصولاً إلى الحرب الحالية الأشد ضراوة، ومع هذا لابد من التأكيد على أن الاشتباك الفلسطيني يبقى ضرورة حيوية لغرض تعديل ميزان القوى إقليمياً وعالمياً، فمثل تلك المعارك وهذا الحجم من الدماء والتضحيات يعمل على كي وعي ملايين من الناس، يمثل حداً فاصلا بين عصرين، ففي هذه المجزرة وبناءً عليها، ولو لم تكن ذا صلة بالشأن العام فإنك سوف تبدأ بطرح الأسئلة.
إن الوعي بالمجزرة وأسبابها ومآلاتها عبر تراكم مستمر سوف يرتبط بالوعي بعلاقة الكيان الصهيوني وشبكة ارتباطاته المصلحية محلياً وإقليمياً وعالمياً بأسباب الخراب القومي، بالبؤس والعوز والفاقة، إن تراكم الأسئلة يعني بضرورة الحال أن هناك من سوف يتقدم للإجابة على تلك الأسئلة، هذا الجدل المستمر لا يؤتي ثماره سوى عبر مدى زمني طويل، فحركة التاريخ الدؤوبة البطيئة توحي بأن لا جديد يحدث في حين أنه ما من ساعة تمر سوى والتاريخ يصُف دقائق الأمور، ويهيئ المقدمات التي هي نتائج لمقدمات أخرى.