رائد سلامة يكتب: عم زكريا .. (إبداعات)
بعد مضي ما يزيد عن نصفِ القَرنْ، مازالت تَعبُرُ برأسي كَحُلمٍ تلك الرائحة، هي في الحقيقةِ خَليطُ روائح امتزجت بمقادير مُحكَمَة بلا ميزانٍ فكانت تلك الرائحةُ الهَجين، خلطةٌ ما بين روائح الزيت والشاي والسكر والتبغ والصابون النابلسي. كانت أمي ترسلني طفلًا لم يبلغ العاشرة بصحبة السيدة العجوز التي كانت تساعدها في أعمال المنزل بإعتباري كبير العائلة بعد وفاة أبي كي أقوم بالتوقيع في الدفتر الضخم تاركًا مَهَمَة حمل مواد التموين الثقيلة للسيدة المسكينة بينما أتقدمها أنا منتفخ الأوداج كفارس آبَ لقبيلته مُنتصرًا في غزوةِ حَربٍ ضروس مُحَمَلًا بأغنامٍ و كنوزٍ عظيمة.
كان عم زكريا ضخمًا جدًا وكان دُكانه صغير نوعًا ما وبِلا بَابْ، نَعم بِلا بَابْ، كان الدكان مجردُ تجويفٍ ككهفٍ في هَيكلِ بناية عتيقة له فتحة كبيرة مُطلةٌ علي الشارع كَشُباكٍ ينتهي من أسفَلِهِ بقطعة رُخَامٍ كان يسميها “البَنك” يضع فوقها دفتر التموين الكبير و بضعة أوزانٍ و مَكَاييل، وكان لهذا الشباك غطاءٌ صفيحي حَلزوني أخضر اللون في نهايته ما يشبه الهِلب الصغير الذي يولجه بسُقَاطة مُثَبَتَةٍ بالبنك يُدخِل فيها قِفلًا كان يحمل مفتاحه بجيب قميصه العلوي إلي جوار قلبه.
ما كان يصنع من عم زكريا بطلًا أسطوريًا في مُخيلتي هو تساؤلي الدائم الذي لم أجد إجابة له حول كيفية دخوله الي الدكان الذي هو بلا بَابْ، لَمْ أرَهُ مرةً يدخل الدكان، و كيف يتسنى له ذلك والدكانُ بلا بَابْ، لابد أنه يمتلك قدرات أسطورية أو أنه يتلو تعاويذ سحرية يَلِجُ بفضلٍ منها الي هذا التجويف العجيب. ظللت واقعًا تحت سِحْر عم زكريا ليتطور بي هذا السِحْر فيتحول إلي ما يشبه الشَغَف لرؤيته، مجرد رؤيته دون إنتظار مشوار التموين الشهري. صرت أذهب يوميًا قبيل المغرب أقف علي الرصيف المُقابل لأتابع عم زكريا، فقط لأراه داخل الدكان ثم أعود الي بيتنا و كأني قد إلتقيت فريد شوقي أو رشدي اباظة أو أحمد رمزي ملوك الفروسية في طفولتنا.
كان مَطلَع شَهرٍ، أعدت أمي الأكياس القماشية و”السَبَتْ”ْ وزجاجة الزيت الفَارغِين، حَمَلتَهم و خرجت أتقدم السيدة التي كانت تساعد أمي صوب دكان عم زكريا. كان شباك الدكان يومها مغلقًا، وقفنا في طابور ضخم، رأيت أصدقاء المدرسة كلهم هناك و كانوا جميعًا في انتظاره. أتي ابنه الذي كنت أراه يساعده أحيانا ليطلب منا الرحيل و العودة في اليوم التالي لأن والده مريض و لن يحضر اليوم. لم أصدق، هل يمرض عم زكريا، بالتأكيد لا، لابد أن في الأمر خدعة ما، سيظهر فجأةً ليقول لنا أنه كان يمزح أو أنه كان يختبر إيماننا به كعملاقٍ أسطوري لكن شيئا من هذا لم يحدث. في اليوم التالي كنت هناك مبكرا، مازال شباك الدكان مغلقا، طلبت مني السيدة العجوز الرحيل و العودة بعد قليل، رَفَضتُ و قررتُ البقاء إلي أن يأتي عم زكريا، جلست علي الرصيف المقابل.
بعد ساعات رأيته آتيًا من بعيد فابتهجت لظهورهِ، لَفَتْ إنتباهي أنه كان مُطَأطأ الرأس يسعل بشدة، لم أستسغ أبدًا فِكرَة أن هناك ما يقهر عم زكريا، و هل يقهر شيئ الأبطال الأسطوريين. لم يكن أحد سواي هناك، علي الرصيف المقابل تابعتُ جلستي أتأمله، أخرج المفتاح من جوار قلبه، أعمله في القِفْل، سحب القِفْل و حرر شباك الصفيح الحلزوني الأخضرفأرتفع تلقائيًا بسرعة في ضجيج مُحَبَب، وضع كلتا راحتيه علي البنك مواجهًا شباك الدكان و ظَهرَهُ للشارع، ألقى بجذعه علي البنك، رفع ساقه اليسرى علي حافة البنك فإنزاح أعلي بنطلونه الذي لم يكن يحيطه بإزارٍ إلي الأسفل قليلًا لينكشف عن مُفتَتَحُ مؤخرةٍ ضَخمَةٍ يعلوه شعرٌ أسودٌ كثيف، في غمضةِ عَينٍ كان واقفًا داخل الدُكان يمارس مهام عمله كأسدٍ كان هَصورًا.
عَرفتُ يَومَها سِر دُخول الدكان ولم يعد عم زكريا بَطَلِيَ الأسطوريْ.
اه الرقة والجمال ده يا عمنا
رجعتنا لذكريات التموين والطفولة
وربنا يرحم عم زكريا الذي اعدته الينا بوصفك الرائع