رائد سلامة يكتب: إيصالات أمانة.. (إبداعات)
كان يَكْرَهُ أيام السبت منذ أن كان طالبًا في المدرسة و ها هو يَكرَهُهُ و قد صار مُدَرِسًا بها، حَلَقَ لحيته و تَحَمَمَ ثم أفطر وحيدًا، كانت زوجته ماتزال نائمة، نظر إلي ساقها العاري إذ إنزاح عنه غطاء السرير، كَتَمَ شهوتَهُ في غيظ، إرتدي ملابسه، خرج مُنزَعِجًا إلي الصالة، فتح باب المنزل و غَادَر.
إعتادت أن تعاقبه إن أغضبها، كما حدث في الليلة الفائتة، بألا تسمح له بمجرد الإقتراب منها و كان كبرياؤه يحول دونه و الإعتذار، فكان في تلك الأحوال يلجأُ لأسطوانات أفلام جنسية حَصُل عليها من أحد تلاميذه الخُبثاء مقابل أن يَمنحه معاملة تفضيلية في نتائج الإختبارات. كانت موجات هَوَس الجنس العاتية تهاجمه في أوقات غير تقليدية، في الصباح المبكر أثناء إستلقاءه علي السرير قبل اليقظة الكاملة، في نهارات رمضان وقت الصيام، في قمة تركيزه أثناء الصلاة، في ذروة حماسه أثناء درسٍ خصوصي، في إجتماعات مجلس البناية، كان يضطرب بشدة فيتلعثم و يَشْرُدُ مُمَنْيَّا نفسه بلحظات مؤجلة من السعادة حقيقيةً كانت أو إفتراضية.
أمام المصعد، إلتقى جاره الذي يسكن بالشقة المقابلة، “صباح الخير” قالها بهدوء فلم يرُدُها الرجل مُتجاهِلًا كأن لم يسمعها، إستراب فقد كان صوته عاليًا للدرجة التي لابد معها أن يسمعه الجار، “هل يوجد خطأُ ما في ملابسي أو رائحتي جعله ينفُر حتي من مجرد النظر إليَّ، ربما ظلت بعض الشعيرات علي ذقني لم أرها عند الحلاقة أو ربما لم أضع مُزيلًا لرائحة العرق” هكذا تحدث لنفسه، ألقى علي ملابسه نظرةً خاطفة ثم تحَسَسَ ذقنه بيمناه و مَر سريعًا بأنفه يمينًا و يسارًا مُتَشَمِمًا إبطيه من أعلى الكتفين ثم أعادها مُضطَرِبًا بصوتٍ أعلى “صباح الخير”، “وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته”، رد الجار ثم راح يسرع علي السُلَم دون إنتظار للمصعد كما لو كان يهرب من مجرد المكوث معه في صندوق مُغلق لثوانٍ معدودات.
إنفتحَ باب المصعد، دَخَل، “سبحان الذي قَدَّر لنا هذا و ما كُنا له مُقرِنين و إنا إلي ربنا لمنقلبون” هكذا أتاهُ صوت الشيخ الخليجي حادًا عاليًا كمن يفرض علي الجميع واجب الإنصات و الترديد من وراءه، لم يكن يعلم متى تم تركيب هذا الدعاء في المصعد و لم يعرف علي وجه الدقة من الذي قام بذلك، لابد أن هذا الجار هو من فعلها في غَفلة من السكان الذين لم يعترض منهم أحد أثناء إجتماعات مجلس البناية التي كان يحرص علي حضورها لا للمساهمة في قرارتها و لكن لإختلاس نظراتٍ لصدر جارته الأرملة الشابة المُكتَنِز التي كانت تتعمد إثارته بعدما لمحته ذات مرة ينظر مُتَعَرِقًا لاهِثًا لفتحة قميصها في شبَق. بالمصعد كان هناك فتىً مُراهِقًا يعبث في إنشغالٍ مُريبٍ بأزرار هاتفٍ محمولٍ بين يديه لم يتركه إلا حين هبط المصعد للطابق الأرضي فَخَرج مُسرعًا و عيناه علي الهاتف لم يرفعهما، لم يعجبه عدم تقديم الفتى له بِحُكم السِنِ للخروج أولًا، “آه لو كان تلميذًا بالمدرسة” هكذا تحدث في نفسه ثم مَضى.
علي عَتَبة باب البناية إلتقى البواب الذي إستقبله بترحابٍ لا يمارسه إلا مَرَةً كل ثلاثين يومًا، تذكر “الشهرية” فسلمَهُ إياها في هدوء و تَوَجَه صوب سيارته الإيطالية العتيقة، أدار مُحركها ثم مَضَى. رغم توافر المال لديه إلا أنه لم يكن يرغب في تبديل سيارته التي أكل الدهر عليها و شرب بسيارة حديثة كَيلا يلفت الأنظار إلي ثروته التي كَوَّنَها من الدروس الخصوصية فأمعن في إخفاءها حيث لم يودعها بَنكًا لكنه إعتاد كلما توافر لديه مبلغ مُعتَبَرٌ من المال أن يشتري أراضٍ زراعية يسجلها بإسم شقيق زوجته مًستَكتِبًا إياه إيصالات أمانة كان يضعها بصندوق خشبي عتيق في الصندرة ببيت أمه الأرملة العجوز في الكَفْر.
أوقف سيارته أمام باب المدرسة و أوصى الحارس عليها ودخل سريعًا ليلحق بطابور الصباح. لم يتناول غداءه كالمعتاد في مطعم الفول القريب من المدرسة بعد إنتهاء اليوم الدراسي فمنزل تلميذ الدرس الخصوصي الأول لهذا اليوم عامرٌ بكل ما تشتهيه الأنفس، أكَلَ و شَربَ ثم تألق في الدرس كمطربٍ جادت قريحته أمام جمهور منسجم. عاد في منتصف الليل مُرهَقًا إلي منزله يغالب النعاس، كانت زوجته نائمة علي حالها الصباحي كأن يومًا كاملًا لم يمر، ألقى بنفسه علي السرير إلي جوارها، تنبَهت فإستيقظت، ناداه هاجس الجنس فَلَبى ولم تعترض هي علي غير عادتها، بعدما فَرغا فَزَع علي وقع جرس هاتفه المحمول، “إحضر فورًا”، إرتدى ملابسه علي عجل و غادر المنزل، وصل إلي الكَفْر بعد ساعة حيث كان منزل السيدة العجوز محترقًا و كانت إيصالات الأمانة مجرد رماد.