د. يحيى القزاز يكتب: مصر ليست محل خردة في “وكالة البلح”
من نكد الدنيا على الناس أن يشهدوا ما يفرحهم (إنشاء شركة الحديد والصلب في الخمسينات) ويشهدوا ما يحزنهم (تصفيتها حاليا). ولا يستطيعون إيقاف التصفية وإعادتها للحياة، كما حدث سابقا مع شركتى “النصر للسيارات وطنطا للكتان والزيوت”. هذا المكتوب يعتمد على تقرير من صحيفة الإندبندنت النسخة العربية، فيه ملخص واف وبسيط لمسيرة تصفية القطاع العام.
أى مواطن بسيط من نبت أرض مصر الطيبة، وُلد على أديمها، وأكل من خيراتها، وشرب من نيلها. تعلم بالمجان في دور تعليمها من ضرائب شعبها الكادح، لا أراديا يجد نفسه رافضا للسياسات الحالية القائمة على التصفية والتبعية. تصفية الدولة من شعبها وأرضها ونيلها، أصولوها وموروثها، ثرواتها الطبيعية، قلاعها الصناعية شركات الحديد والصلب والكوك والأسمنت، والغاز وماسبيرو. مسار، موروث سيئ، لم تخطه السلطة لكنها اختارت أن تسير عليه طواعية، تعمقه بدلا من أن تصلحه وتطوره. وفى الطريق، حسب ما يشاع، سيباع الهرم وماسبيرو وقناة السويس. فى أيامنا كل إشاعة بداية لحقيقة. يمكن تلخيص الحياة بسنوات العذاب المقنن. ما يباع هو ممتلكاتنا، دفع فيها الآباء والأجداد الثمن مساهمات مالية، وكدا في العمل.
إعلان تحت عنوان: ” شركة الحديد والصلب، تحت التصفية، بيع بالمزاد العلنى” يوم 28 سبتمبر 2022. يرى البعض أن اختيار تاريخ التصفية في يوم موت جمال عبدالناصر رسالة تعلن تصفية مشروعه فى يوم موته. الحكومة تعلن بيع محتويات شركة الحديد والصلب “خردة” في مزاد علني. لم يستشعروا حرجا، أو يشعروا بوخز الضمير وهم يتخذون هذا القرار؟! وكيف طاوعهم قلبهم؟! أليسوا بمصريين دورهم التطوير لا التخريب، والتنمية لا البيع والتصفية! إنها أول شركة للحديد والصلب في الشرق الأوسط أنشأها الشعب المصرى بسواعده وعرقه وماله في عهد عبدالناصر. استمرت قلعة صناعية منتجة حتى بدأت الخصخصة واللصوصية بالقانون 203 لسنة 1991. إعلان قمئ سيء الاختيار والعرض والهدف يبعث على الدوار والغثيان. ما يعرض للبيع والتصفية ليس “خردة” في محل في وكالة البلح بل هو تاريخ أمة عريقة يستعصى على كل حر.
بعد إصدار القانون رقم 203 لسنة 1991 تحولت شركات القطاع العام إلى مسمى “قطاع الأعمال العام” لنقل عبء الشركات العامة سواء الرابحة أو الخاسرة من كاهل الموازنة العامة للدولة، ليسهل التصرف فيها. “على مدار 25 عاماً جرت خصخصة وبيع 282 شركة بحصيلة إجمالية 53 مليار جنيه (2.75 مليار دولار أميركي)، سواء عن طريق بيع الأغلبية (لمستثمر رئيس استراتيجي) لـ38 شركة بإجمالي ستة مليارات جنيه (312 مليون دولار)، على غرار بيع شركتي أسمنت (بورتلاند – العامرية)، أو بيع أقلية بحصيلة 11 مليار جنيه (571 مليون دولار) مثل شركتي (سيدى كرير أو الشرقية للدخان) أو التصفية، كما جاء في تقرير صحيفة ” Independentعربية” (إندبندنت عربية) تحت عنوان “تفاصيل تصفية شركة الكوك المصرية بعد 62 عاما من الإنتاج” بتاريخ 9 سبتمبر 2022.
وتضيف نفس الصحيفة أن الفترة من عام 1993 وحتى قبل اندلاع ثورة يناير 2011 شهدت تصفية نحو 34 شركة، أشهرها شركات “النصر للمراجل البخارية” و”فارسكو للأخشاب” و”النصر لصناعة الخشب الحبيبي” و”سابى” و”القاهرة للمنتجات المعدنية” و”مصر للألبان والأغذية” و”النيل للكبريت” و”مريوط الزراعية”. مازلنا مع تقرير الإندبندنت، قرارات التصفية لم تمر مرور الكرام، فالدعاوى القضائية انهالت ضد الحكومة لإيقاف التصفية، وأوقفت تصفية شركتا “النصر للسيارات وطنطا للكتان والزيوت” وأعادتهما للحياة، أدى إلى توقف قطار التصفية قليلاً قبل عامين من يناير 2011، ليظل قابعاً بتلك المحطة لسبع سنوات قبل أن يعاود رحلته من جديد مع تصفية “شركة القومية للأسمنت في عام “2018، ثم “شركة الحديد والصلب المصرية في عام “2021، وأخيراً أعلنت الجمعية العامة لشركة النصر للكوك والصناعات الأساسية تصفية الشركة في الرابع من سبتمبر 2022.
ثلاث ملاحظات تستوقف المتابع: الأولى: على مدار 25 عاماً جرت خصخصة وبيع 282 شركة، الثانية: 34 شركة تم تصفيتها في الفترة من عام 1993 وحتى قبل اندلاع ثورة يناير 2011، الثالثة: عودة شركتى “النصر للسيارات وطنطا للكتان والزيوت” إثر دعاوى قضائية رفعت ضد الحكومة لإيقاف التصفية، أوقفهما قضاء مصر العظيم. لماذا لا نصنع ما صنعنا قبل 2011 وسينصفنا القضاء المصرى بإذن الله؟
البيع والتصفية سياسة حكومية ممنهجة. بدأها وزير تصفية (قطاع) الأعمال هشام توفيق قبل إقالته ببيع شركة الحديد والصلب مقدمة لعرض بيع شركة النصر للكوك في 4 سبتمبر 2022 مسببا أن الشركة تحتاج ضخ أموالا ضخمة ولاتحقق عائدا، وأن منفذها الوحيد لبيع الكوك هو شركة الحديد والصلب التي جرت تصفيتها بالفعل العام الماضي، وليس لها منافذ تسويق محلية أو إقليمية على الإطلاق”. ويرد رئيس شركة النصر للكوك التى عرضت للبيع فى 4 سبتمبر 2022 أن “الشركة حققت أرباحاً صافية تخطت حاجز 40 مليون جنيه (أكثر من مليوني دولار) في السنة المالية 2020-2021، صدرت في بداية السنة المالية الحالية أكثر من 70 ألف طن”، أى لاتنطبق عليها شروط التصفية. وبفرض أن الشركات تخسر فالحل كما ذكره أساتذة الاقتصاد والإدارة هو دراسة حالتها، والاستدانة للإصلاح والتطوير والتنمية كما استدانت السلطة لمشاريع لم تأت ثمارها بعد وأفلست الدولة! ديون قصمت ظهر مصر أرضا وشعبا، وشعب مطالب بسدادها كرعاع المماليك.
إذا كنا شركاء في الغُرم فلابد وأن تحدث مكاشفة وشفافية في معرفة الأسباب التي أدت لهذا الوضع المزرى، يستلزم تقديم كشف حساب عن كل ما مضى. سوء الإدارة بحسن نية جريمة، وعن قصد خيانة تستوجب المحاكمة. القانون المصرى يقر الحجر على الأب الذى يسئ التصرف في ثروته، ويمنعه من التصرف فيها لمصلحة أبنائه. محاكمة كل من أسس للتصفية باسم الخصخصة ومارسها ومن تبعهم واجب، لا تسقط بالتقادم. لتكن البداية بوزير قطاع الأعمال السابق هشام توفيق، ليكون عبرة لغيره ولمن يأتي من بعده من المسؤولين. من أمن المراقبة والمحاسبة أساء التصرف.. وتفرعن.