د. يحيى القزاز يكتب عن: حلم محمدين
“محمدين” مهندس زراعى حلمه في حياته مزرعة نموذجية لأهله، وفى مماته مقبرة في قريته تضم رفاته. مزرعة نموذجية شبكة رى متطورة. أساسها مزارع القمح، فيها تنوع حيوانى ونباتى وطيور وأشجار فاكهة. نوع من الاكتفاء الذاتي لأهل القرية. مزرعة يعمل فيها شبابها وتطعم أهلها.
سافر لبلاد بعيدة خلف البحار بحثا عن عمل. كلما تتحسن أحواله، يرسل لأهله مالاً يستحثهم على شراء أدوات زراعية حديثة، وشراء أرض ممن يبيعون أرضهم من اهل القرية مضطرين حتى لا يدخلها غريب بينهم.
طلب اخوته مساعدتهم في بناء بيت حديث يتناسب مع المتغيرات الجديدة. لم يمانع ولم يطلب منهم أن يقتطعوا مما كان يرسله لعمل المزرعة. اشترط أن يبقى البيت القديم المشيد من كعاب البوص والطوب اللبن كما هو في حقلهم ذي التينة العتيقة على حافة الجدول. وليكن هذا ميراثه، وحوله عدد قليل من القراريط حرم له، وشاهد على ماض بسيط يذكرهم بكدهم وكرامتهم في كسب قوت يومهم. لم ينس أن يذكرهم بوصية والدته عند سفره: “ود يا محمدين اوعى تدوب في نعومة الخواجات.. من نسى قديمه تاه.. ياولدى”
بعد أكثر من ثلاثة عقود غريبا في بلاد الفرنجة عاد محمدين للاستقرار في قريته. استقبله أهله في بيتهم الجديد “قصر آل سرحان” المنيف، وحوله حرس وخدم وحشم، ويبدو على ساكنيه ترف لا تخطئه عين، وجاه لا يغيب عن كل قادم أو مقيم، وثروة لا يفنيها إسراف ولا تبذير. الليل وتعب السفر لم يمكناه من إدراك ما هو فيه. استيقظ في الصباح. أهل القرية يملؤون صحن الدار الكبير (القصر) يسلمون على القادم، والاحتفالات. ترامت نظراته خارج القصر فسأل شقيقه الأصغر عن الوضع. أجابه “كله من فضلة خيرك”، استطرد وماهذه البنايات الرمادية؟! بناها رجل من أهل الخير للفقراء ووزعها وحدات سكنية عليهم بلا مقابل، وأنشأ لهم مصانع يعملون فيها، فالزراعة لم تعد تجدى بعد نقصان المياه، وأَمَنَ عليهم اجتماعيا وصحيا، وصارت أوضاعهم أفضل. وماذا عن أحلامنا وما كنت أرسله لكم وما كنتم تكتبونه إلى بأن العمل جار في المزرعة كما أرغب، وأن المزرعة بدأت بشائرها؟! ثأ ثأ..نعم.. ثأ ثأ.. شاركنا بأرضنا رجل خَيًر في مصانعه، حط بقريتنا منذ أعوام قليلة، أنقذنا من فقر مدقع وموت محقق، بعد أن شحت المياه تماما، وتيبست المروج والضروع، وها هي تدر ربحا وفيرا، وكما ترى نعيش في رغد و”الآشيه معدن”، تصاهرنا بزواج ابنتيه لاثنين من ابناء شقيقنا “شحتو”، وصرنا من علية القوم، وفى المديرية لنا كلمتنا وعند الحكومة معمول حسابنا، ولا يجرؤ كائن من كان يهوب ناحيتنا زى زمان. مع كل إجابة من شقيقه الأصغر يشتد الدوار برأس محمدين وتزداد آلام بطنه فيتضاءل حجمه.. ينكمش.. يتكور.. ويتماسك كالقنفذ.
يسير بين البنايات وشوارع القرية الغريبة عليه. اقترب من قصر منيف آخر بل أكبر من قصر اخوته. سأل شقيقه: قصر من هذا؟! فلم يرد، واسترسل وأين بيتنا القديم؟! فلم يرد. الدوار والآلام ينهشان “محمدين” ويصرخ: أين بيتنا القديم دلنى عليه أريد أن أراه وأقيم فيه؟ يسمع من الخلف صوتا هادئا، ويدا تربت على ظهره: هنا بيتك القديم، مشيرا ناحية القصر، تفضل مستر “مهمدين” (محمدين) كنت اعرف حبك له فاحتفظت لك به كما هو في داخل قصرى، تقيم فيه عند عودتك معنا كى تؤنسنا دوما، فنحن أهل وأبناء عم وإن طال بعادنا.
من هذا يا ابن أمى؟! ل.. ل.. ليفى.. ابن عمنا.. رجل محترم، خدوم، طيب، ومحب للخير، وصهرنا العزيز، صاحب المصانع وبيشغل كل أهل القرية فيها.. ومش مخلى حد محتاج، وكل الناس بتحبه، وتشكر فيه ويتمنوا رضاه.. حاجه ماشفناهاش قبل كده من حكوماتنا، والناس كلها وحتى في المجاورات بتحبه وتطلب مساعدته، وتطالبه بالترشح لعضوية البرلمان لأنه نصير الغلابه وحاميهم.. رجل متواضع.. بتاع ربنا.. ماشفناش حُسن زى كده.
صرخ محمدين. انفجرت عروقه. سال الدم من أنفه شلالات. سقط على الأرض. مات.
بسبابته، أشار “ليفى” بدفنه خارج القرية في الصحراء البعيدة.