د. محمد نعمان نوفل يكتب: فوضى إدارة الميزانية والاستيلاء على مبالغ الدعم

البديهيات السياسية لإدارة الدول توافقت على أن الموازنة العامة هي البرنامج المالي للحكومة، وهي ترجمة لبرنامج الحكومة الذي تحدد فيه التزاماتها وخططها تجاه المجتمع لمدة عام. لذلك، تكتسب الموازنة حال إقرارها استقرارًا ماليًا لا يسمح بتعديلات فيها إلا في الحدود الضيقة لنسب الاحتياطي النقدي. كما لا تتغير التزامات الحكومة إزاء المجتمع بعد إقرار الموازنة إلا في الضرورات القاسية التي تعصف بالمجتمع أو الوضع المالي للدولة.

في حال إقرار الموازنة، تتحرك الحكومة لحشد مواردها المالية والمحددة سلفًا لتمويل الالتزامات، ومن بين عمليات تمويل الموازنة ما سبق أن خططت الحكومة لتدبيره من قروض في حالة قصور الموارد المحلية عن الوفاء بالنفقات. لم نسمع من قبل أنه بعد إقرار الموازنة طرأ للحكومة أن تحصل على قروض كبيرة لتمويل الموازنة، وأن تبدأ مفاوضات الحصول على القرض من نقطة الصفر بعد إقرار الموازنة، وإلا كانت عملية تدبير الموارد ضربًا من العشوائية، ووفاء الحكومة بالتزاماتها محل شك كبير.

أقر مجلس النواب موازنة العام المالي 2024/2025 يوم 3 يونيو 2024، غير أن زيارة وفد صندوق النقد الدولي إلى مصر لإجراء المراجعة الرابعة لبرنامج مساعدات الصندوق بدأت يوم 6 نوفمبر من نفس العام، أي بعد إقرار الموازنة بخمسة أشهر وبدء العمل بالموازنة الجديدة التي تم إقرارها من الأول من شهر يوليو 2024.

شهدت أيام زيارة بعثة الصندوق إلى مصر ثلاثة تغييرات بالغة الأهمية في مسار الإدارة المالية للدولة. لقد اكتشفت الحكومة بعد إقرار الموازنة أنها بحاجة إلى مبالغ مالية إضافية، وطلبت تعزيز برنامج المساعدات الذي أقره الصندوق بمبلغ 3 مليارات دولار بمبلغ خمسة مليارات إضافية، أي يتطور إجمالي قروض البرنامج دفعة واحدة من 3 مليارات إلى ثمانية مليارات دولار. وقد وافق الصندوق على زيادة قروض البرنامج، لكنه التزم بدفع 820 مليون دولار فقط المحددة سلفًا، أي أن الزيادة المطلوبة لم تنعكس آنياً على حجم مساعدات الصندوق، ولم يقدم الصندوق برنامجًا جديدًا لأقساط المساعدات. لكن ما حدث أن التزامات مصر تجاه صندوق النقد الدولي زادت خمسة مليارات دون خطة واضحة للأقساط، أي أصبحنا مرة أخرى نتحمل مسؤولية قروض جديدة على الورق.

كرر الصندوق مطالبه بتحريك سعر الصرف وفتح المجال للقطاع الخاص لقيادة النمو الاقتصادي والتحول إلى الدعم النقدي بديلًا للدعم العيني. وافقت الحكومة عمليًا على نظام مرونة سعر الصرف من خلال عملية بطيئة لتحريك سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وبدأت في ذلك بالفعل. كما وافقت على التحول نحو الدعم النقدي، وتقدمت بمشروع قانون للدعم النقدي، وتم إقراره من مجلس النواب يوم 17 ديسمبر الماضي، وسوف يبدأ تنفيذ القانون بعد ثلاثة أشهر من نشر القانون في الجريدة الرسمية.

لقد انتقت الحكومة من بين طلبات الصندوق طلب إدارة نظام مرن لسعر الصرف، وطلب التحول إلى الدعم النقدي. سوف نناقش أثر تنفيذ الطلبين على اعتمادات الموازنة، حتى نرصد حجم التغير المتوقع بعد إقرار الموازنة والعمل بها.

بدأ تنفيذ النظام المرن لسعر الصرف بعد مغادرة بعثة الصندوق مباشرة، أي بعد يوم 20 نوفمبر. ولذلك، تحرك سعر الجنيه المصري أمام الدولار ما بين 51 جنيهًا، 52 جنيهًا في البنوك، في حين أن السعر المقدر في الموازنة للجنيه أمام الدولار 49.6 جنيهًا. خلال هذه الفترة الوجيزة التي لا تزيد عن شهر، نرى أن قيمة الجنيه أمام الدولار قد انخفضت بنسبة تتراوح ما بين 1.4%، 2.4%. هذا الانخفاض سوف ينعكس بالتأكيد على اعتمادات النفقات في الموازنة بنفس نسبة الزيادة، وهي زيادة مرشحة للارتفاع مع تزايد الطلب على العملات الأجنبية واستمرار حالة العجز عن توفير عملات صعبة في المصارف المصرية، خاصة وأن سياسات الإنفاق الواسعة لم تتغير ولم توضع قيود على أولويات الإنفاق العام. فإذا كان العجز المقدر في ميزانية هذا العام يصل إلى 1.3 تريليون جنيه، أي حوالي 50% من قيمة الإيرادات، فإن هذا العجز مرشح للزيادة بحكم تراجع قيمة الجنيه أمام الدولار بالنسبة للنفقات المقدرة بالنقد الأجنبي في الموازنة.

إن أي خطط موضوعة سلفًا لمواجهة عجز الموازنة لم تعد صالحة في ظل السياسة النقدية الجديدة الطارئة على الاقتصاد بعد إقرار الموازنة بخمسة أشهر. ويصبح على القائمين على الإدارة المالية البحث عن موارد جديدة لمواجهة العجز المتوقع المتنامي للموازنة، وهي حلول مختلفة بالتأكيد عن تلك التي وضعت من قبل لمواجهة العجز السابق وقت إقرار الموازنة. أما إذا كانت الوصفة السهلة التي تواضعت عليها وزارة المالية هي المزيد من الاقتراض، فإننا بصدد تزايد أكبر لمعدلات الاقتراض.

بالنسبة لقضية الدعم النقدي، فإن صندوق النقد طرح ربطًا بين مبالغ الدعم النقدي وزيادة أسعار الوقود، حيث اعتبر أن دعم الوقود إنفاق غير مستهدف، ورأى أن يستبدل به الإنفاق الاجتماعي، وحصيلة الزيادات التالية في أسعار الوقود توجه إلى الإنفاق الاجتماعي فيما أسماه حزمة مستدامة لتعديل أسعار الوقود، وبالتالي الإنفاق الاجتماعي.

نخلص من ذلك أن رفع أسعار الوقود عملية مستدامة، وسوف تظل كذلك عندما يتحقق الهدف النهائي من المساواة ما بين أسعار الوقود المحلية والأسعار العالمية. أما فيما يتعلق بالدعم النقدي، فقد تقدمت الحكومة لمجلس النواب بمشروع قانون “الضمان الاجتماعي والدعم النقدي”، وقد حددت الحكومة الهدف من القانون، وهو توحيد برامج الدعم النقدي التي تمنحها الدولة في منظومة برنامج واحد يحقق توحيد الوعاء المالي وتنظيم المنح بهدف تعظيم الاستفادة من الدعم. أي أن هذا القانون هو قانون موحد للدعم، ولا نتوقع وجود مجالات أخرى للدعم خلافًا لما يتضمنه هذا القانون الموحد، ولكن هل يهدف القانون بالفعل إلى تعظيم الاستفادة من الدعم؟

تكلفة تنفيذ القانون (وهو المبلغ الإجمالي للدعم النقدي) كما قدرته الحكومة في مشروع القانون 41 مليار جنيه، والمستفيدون من القانون حسب التقديرات الحكومية أيضًا يبلغ عددهم 21 مليون مواطن. لقد عرّفت الحكومة المتوقع استفادتهم من تنفيذ القانون بالسكان الذين يقعون تحت خط الفقر. لكن نسبة السكان الواقعين تحت خط الفقر حسب الإحصاءات الحكومية في عام 2022 بلغت 29.2%، أي أن عددهم يبلغ 30.95 مليون نسمة. البنك الدولي أعلن في مايو 2023 أن نسبة السكان تحت خط الفقر في مصر تبلغ 34.45%، أي أن عددهم طبقًا للبنك الدولي يبلغ 34.45 مليون نسمة. ويفيد عدد من المصادر الدولية، منها وكالة رويترز، أن نسبة السكان تحت خط الفقر في مصر تبلغ 60% من السكان، أي 63.6 مليون نسمة. هذه التقديرات المتباينة جميعًا تبتعد عن التقدير الذي وضعت الحكومة على أساسه الاعتمادات المالية لهذا القانون. أغلب فقراء مصر، والأمر كذلك، خارج مظلة قانون الدعم النقدي، فهناك على الأقل 9 ملايين نسمة خارج مظلة القانون طبقًا للتقديرات الحكومية لعدد السكان تحت خط الفقر.

من ناحية أخرى، في مشروع موازنة 2024/2025، بلغت اعتمادات دعم السلع التموينية 134.150 مليار جنيه، في حين أن الاعتماد الإجمالي للدعم النقدي حسب القانون يبلغ 41 مليار جنيه فقط. أي أن الحكومة قد استولت على مبلغ 93.150 مليار جنيه من اعتمادات الدعم المقررة في الموازنة، وفي نفس الوقت تدعي في ذكره القانون أنها تهدف إلى تعظيم الاستفادة من الدعم!

إن المبلغ المقرر لقانون الدعم النقدي هزيل تمامًا إذا تم تقسيمه على فئة الـ 21 مليون نسمة المستهدفين (والذين لا نعرف على أي أساس جرى استهدافهم، فهم أقل كثيرًا عن عدد السكان تحت خط الفقر). إن نصيب الفرد في العام من هذا الدعم النقدي يبلغ 1952 جنيهًا و38 قرشًا، ويصبح مبلغ الدعم الشهري 162 جنيهًا و70 قرشًا. على أي أساس وضعت هذه التقديرات، وماذا تدعم على وجه التحديد بعد سلب أكثر من 93 مليار جنيه من اعتمادات الدعم العيني؟إن ما نحن بصدده حالة من حالات فوضى الأداء المالي وخروج عما تم إقراره قانونًا، أي قانون الموازنة الذي لم يعد له أي حجية قانونية لدى القائمين على إدارة الموازنة. مجرد أن تقبل الحكومة مراجعة الصندوق بعد إقرار الموازنة والقبول بشروطه، على الرغم من أنها لم تكن واردة وقت إعداد مشروع الموازنة، هو ضرب من التسيب المالي وتقويض لأي أولويات، بل إننا نتصور أن الأولويات غائبة والالتزامات الحكومية لا وجود لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *