د. محمد مدحت مصطفى يكتب: النمط المصري للإنتاج (9- 11) أنماط الإنتاج في مصر
تعرض العديد من الباحثين لدراسة تطور أنماط الإنتاج في مصر، وتدور غالبية نتائج هذه الدراسات حول التطور عبر حلقات التطور الأوربية (عبودية ـ إقطاع ـ رأسمالية ـ اشتراكية)، وأن الاختلاف بينهم نجده إما في تحديد تاريخ بداية ونهاية كل نمط، أو في تحديد مراحل الانتقال، أو في البحث عن جذور النمط في مراحل تاريخية سابقة عليه، أو في مدى الاتفاق والاختلاف بين تلك الأنماط مع الأنماط الأوربية التاريخية المعروفة. كما أن هناك القليل من الدراسات التي اتجهت نحو النمط الآسيوي للإنتاج في محاولة للبحث عن أصول ذلك النمط في تطور المجتمع المصري.
يُمكن الإشارة إلى أن النقاط الرئيسية التي اتفق عليها الباحثون عند تناول موضوع نمط الإنتاج الإقطاعي هى: ربط الفلاح بالأرض- إنتاج الفلاح للاستهلاك وليس للسوق- الملكية الفردية للأرض. وأن أبرز معالم الإقطاع الأوربي تمثلت في إقامة مجتمعات منعزلة يخضع كل منها لسيطرة السيد الإقطاعي أما الوضع في مصر فهو مختلف حيث لم يوجد مثل هذا الانعزال بين وحدات المجتمع المصري.
بالنسبة لنمط الإنتاج الآسيوي في مصر تدل البرديات والمخطوطات وكتابات الرواة وسجلات الروزنامة (مالية الحكومة) أن المحاسبة على سداد الضريبة (جزية- خراج- ميري) كانت تتم بالإقليم ثم بالقرية كوحدة، ولم تتم المحاسبة على صعيد أفراد القرية إلا في عصر محمد على. بمعنى أن القرية أو الطائفة الحِرفية كانت الوحدة الإنتاجية المُستغلَة وليس الفرد. وفي العهد العثماني المصري مثلاً فيما يخص علاقات الإنتاج: هناك المُشترَكات المملوكية (البيوت المملوكية)، ومُشترَكات الجنود العثمانيين (الأوجاقات)، والمُشترَكات الذِمية (الملل)، والمُشترَكات الأوربية (الجاليات ذات الامتيازات)، والمُشترَكات الحِرفية والتجارية (الطوائف)، والمُشترَكات الصوفية (الطرق الصوفية)، وهذا كُله إلى جانب مُشترَكات الفلاحين (القرى).
فالمُشترَك الإنتاجي إذن عمود من العمودين الأساسيين للنمط الآسيوي، والعمود الثاني هو (الدولة ذات المهام الاقتصادية). فلم يكن هناك فلاح يزرع إلا وهو فرد من أفراد مُشرَك قروي، ولم يكن هناك تاجر أو حِرفي أو جندي أو كاتب إداري أو جابي … الخ، بل كان للصوص والعاهِرات طوائف تُجبى منها ـ لا من أفرادها ـ الضرائب والفِرَدْ. أما بالنسبة لمِلكية الدولة لوسائل الإنتاج الرئيسية وخاصة الأرض فقد حفِلت العديد من الوثائق المصرية بما يؤكد مِلكية الدولة لها. كما تمتعت المُشترَكات القروية المصرية بالاكتفاء الذاتي، وضآلة حجم الإنتاج السلعي. وأن الركود أو التطور البطيء القاتل الذي شهدته مصر إنما يرجع أساساً إلى سيادة نمط الإنتاج الآسيوي حيث يُمثل الركود العام أهم ملامحه. وقد استمر ذلك الوضع حتى دخلت مصر في النظام الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر.
ويعتبر أمين عز الدين صدور القانون المدني الأهلي في 28 ديسمبر 1883م الذي نص على أن يُسمى مِلكاً “العقارات التي بكون للناس فيها حق التمليك التام”، أنه أدى إلى ظهور طبقة كبار مُلاّك الأراضي مع خروج ملايين الفلاحين صفر اليدين، ولكن هذا الجانب السلبي رافقه جانب إيجابي بالنسبة للفلاحين وبالنسبة للمجتمع المصري كله، فإن ظهور الملكية الخاصة في الزراعة مرحلة أكثر تقدماً على نظام “الإقطاع الشرقي”، كما أنها وضعت حداً لعلاقات الإنتاج القديمة وهي العلاقات التي كانت تقوم على “التبعية” أي تبعية الفلاحين للملتزمين، وحققت للفلاحين خطوات هامة نحو تحررهم حيث انتهى الحظر على انتقال الفلاحين بين الأقاليم، كما ألغي نظام السُخرة في 19 ديسمبر 1889م وإن ظلت رواسبها وبقاياها قائمة إلى عهد غير بعيد … ثم يعود ويؤكد على أن تطور علاقات الإنتاج في الزراعة طوال القرن الماضي قد أدى إلى إنهاء “الإقطاع الشرقي” ونشوء الملكية الخاصة. وعلى ذلك فإننا نلحظ هنا أن أمين عز الدين قد اعتبر الفترة السابقة على صدور القانون المدني الأهلي فترة “إقطاع شرقي”، وأن “التبعية” أيضاً قد انتهت.
ويرفض عبد العظيم رمضان وصف العلاقات الاقتصادية بين الفلاحين وكبار المُلاّك بالعلاقات الإقطاعية، إلا أنه لم يضع توصيفاً آخر لها. ويُرجع رفضه للأسباب التالية: “من ناحية كبار المُلاّك لم تكن تربطهم بفلاحيهم أية واجبات أو حقوق إقطاعية، فإن الكثيرين منهم كانوا قد أخذوا منذ وقت بعيد يهجرون الأقاليم ويسكنون العواصم. ولم يكونوا يمارسون أية سلطة قانونية على فلاحيهم، وبالتالي لم يكونوا يتحملون أية مسئوليات اقتصادية أو اجتماعية تجاههم. وكانت الأرض في نظرهم مجرد سبيل لاستثمار المال: إما عن طريق البيع والشراء، أو عن طريق تأجيرها لمُلاّك كبار آخرون كما كان يفعل أحمد عمرو باشا والذي كان يملك ستة عشر ألف فدان يؤجرها جميعها، في حين أن البدراوي باشا كان لا يعرف تأجير الأرض بل يستأجر هو الأرض التي تجاور أرضه. أما من ناحية الفلاحين، ففيما يختص بأملاكهم الصغيرة، فإن سلطانهم عليها وتصرفهم عليها كان مُطلقاً بحكم القانون. وفيما يختص بالأراضي التي يستأجرونها، فقد كانوا يستأجرونها في الغالب من المستأجر الكبير وليس من المالك الكبير، ولم يكونوا يدينون بأية تبعية قانونية أو سياسية لهذا المالك. أما السيطرة الفعلية فكانت ترجع إلى ثروة المالك ومكانته الاجتماعية ونفوذه في دوائر الحكم والإرهاب، وهي جميعها تُنتج نفس الآثار التي تُنتجها العلاقات الإقطاعية. ولم تكن العلاقات الاقتصادية بين العمال الزراعيين وكبار المُلاّك تنطبق عليها أيضاً أوصاف العلاقات الإقطاعية. فمع أن العامل كان رهين الأرض وصاحبها، إلا أنه كان يقدر على هجرها والتخلص من هذا القيد، وليس للشرطة تدخل في الأمر، وللمالك أن يُقاضيه مدنياً لدفع ما عليه، ولكنه مُعدم لا يعبأ بالمقاضاة، والحكم الذي يصدر بالدفع يذهب هباء. على أنه من الناحية الفعلية، فإن فقر العمال الزراعيين حملهم على قبول العبودية للمُلاّك على اعتبار أنها تضمن لهم الكفاف من القوت.
ولم يكن للمالك بحكم القانون أي حقوق قضائية في أرضه، ولكنه كان ينتحل لنفسه هذه الحقوق حتى في أخص الشئون البيتية للعامل الزراعي بحكم انحطاط مستوى معيشة العامل وتخلفه الفكري ورجائه وخوفه من المالك، ونجد هنا مجموعة من الملاحظات الذكية: أولها أن عبد العظيم رمضان لم يهتم بإطلاق تسمية للعلاقات القائمة بقدر اهتمامه بنفي إنها كانت علاقات إقطاعية، الملاحظة الثانية أنه رغم نفي وجود العلاقات الإقطاعية إلا أنه يؤكد وجود نفس آثارها، الملاحظة الثالثة هي تأكيده على وجود عملية ربط للفلاح بالأرض وأصحابها نتيجة الفقر ولضمان الكفاف من القوت. وعلى ذلك فإن رمضان يُقلل من حجم التغيرات التي حدثت، وذلك على العكس من اتجاه عز الدين. كما يؤكد على استمرار التبعية، في حين يتجه عز الدين إلى نحو تقلصها الشديد.