د. محمد مدحت مصطفى يكتب: النمط المصري للإنتاج (5- 11).. نمط الإنتاج العبودي
توصلنا في السابق إلى أن نمط الإنتاج إنما يتحدد وفقاً لمستوى تطور قوى الإنتاج (أدوات الإنتاج ومستلزماته) وشكل علاقات الإنتاج السائدة، وإذا كان مستوى تطور قوى الإنتاج يسهُل التعرف عليه فكيف يُمكن التعرف على شكل علاقات الإنتاج؟ ذكرنا أن المقصود بعلاقات الإنتاج تلك العلاقات الإنسانية التي تنشأ أثناء عملية الإنتاج، وهذه العلاقات تشكل المساهمة الإنسانية في عملية الإنتاج. وإذا كانت العلاقات الإنسانية عرفت شكل المساهمة الجماعية في عملية الإنتاج وبالتالي شكل المشاركة الجماعية في توزيع هذا الناتج، فقد كان ذلك قبل أن تعرف هذه المجتمعات حقوق المِلكية الفردية. وعلى ذلك فقد أخذت علاقات الإنتاج شكل الصراع بدلاً من التعاون، لأن حصول أحد الأطراف على ملكية وسائل الإنتاج معناه حِرمان أطراف أخرى من هذه المِلكية، ومن ثم تتشكل العلاقة بين أطراف مُسيطِرة (التي تمتلك وسائل الإنتاج) وأطراف مُسيطَر عليها (محرومة من هذه المِلكية) ويتحدد أيضاً بناء على هذه العلاقة شكل توزيع الناتج.
وهنا يجدر الإشارة إلى أمر غاية في الأهمية وهو أن الأصل في المِلكية (السيطرة الفعلية) على قوى الإنتاج ومن ثم السيطرة على الناتج، فإذا تحققت هذه السيطرة بدون توفر الحق القانوني للمِلكية الفردية تتحقق أيضاً السيطرة الفعلية على الناتج. ونقول إنه أمر غاية في الأهمية خاصة عند دراسة الاقتصاد الزراعي تحديداً، لأن هناك مجتمعات تأخر فيها ظهور حقوق المِلكية الفردية الكاملة للأرض الزراعية، في الوقت الذي توفرت فيه العديد من الحقوق الأخرى والتي من أهمها حق الانتفاع، وهو حق يكفل السيطرة على الناتج بشكل كبير، كما أنه حق قد يمتد لسنوات طويلة، وفي بعض الأحيان يُسمح بتوريثه، كما كان الحال بالنسبة للمجتمع المصري ومجتمعات أخرى. وفي هذه الحالة فإن تحليل نمط الإنتاج هنا يجب أن يرتكز على الحيازة وليس على المِلكية، مع عدم إهمال الأخيرة بوصفها مصدرا للريع الذي يحصل عليه المالك.
من هذا المُنطلق نجد أن المجتمعات الإنسانية عَرِفَتْ بشكل عام مجموعتين من أنماط الإنتاج: مجموعة قائمة على علاقات إنتاج تعاونية قائمة على المِلكية الجماعية لقوى الإنتاج (وسائل الإنتاج) وبالتالي مِلكية جماعية للناتج كما كان الحال في نمط المشاعة البدائية لدى بعض المجتمعات الإنسانية البدائية، وكما كان الحال في محاولة إقامة نمط الإنتاج الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوربا الشرقية. ومجموعة قائمة على علاقات إنتاج تناحرية قائمة على المِلكية الفردية لقوى الإنتاج (وسائل الإنتاج) وبالتالي المِلكية الفردية للناتج كما كان الحال في نمط الإنتاج العبودي في بلدان الإمبراطورية الرومانية، ونمط الإنتاج الإقطاعي في أوربا القرون الوسطي، وكما هو الحال في نمط الإنتاج الرأسمالي. إلا أن ذلك لا يعني أنه لا توجد أنماط إنتاجية أخرى شهدتها المجتمعات الإنسانية، لأن البحث الجاد الدؤوب أمكن لعدد من الباحثين التوصل لأنماط أخرى غير المذكورة سابقاً شهدتها بعض المجتمعات الإنسانية في مجري تطورها الحضاري الإنساني. وسنحاول فيما يلي التعرف على تلك الأنماط الإنتاجية مع التركيز نمط الإنتاج الرأسمالي ونمط الإنتاج الإقطاعي بوصفهما جناحي توصيف المجتمع المصري لدى غالبية الباحثين الذين تناولوا تلك الفترة من تاريخ مصر.
نمط الإنتاج العبودي:
وجد نمط الإنتاج العبودي بذوره في أحضان النمط الأولي المعروف بالمشاعة البدائية، وكان أسرى الحروب بين القبائل هم أول بشر محرومون من كافة الحقوق الفردية (حق التملّك)، وكافة الحقوق الاجتماعية (حق تكوين أسرة)، أما عندما يتحولون إلى عبء على المالك فإن هذا الأخير كان له حق التخلص منهم بالكيفية التي يراها. وعلى ذك فقد وُجِدَ العبيد في الفترات الأخيرة من المشاعة البدائية، إلا أن تلك العبودية أيضاً كانت عبودية مشاعية بمعنى أنهم كانوا مِلكاً للجماعة يقومون بأداء الأعمال المطلوبة منهم لصالح تلك الجماعة.
أما تبلور نمط الإنتاج العبودي بعد انهيار المشاعة البدائية فقد قام أساساً على اعتبار أنه أول الأنماط الإنتاجية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية تقوم على مبدأ إقرار حق المِلكية الفردية بما فيها مِلكية العبيد. وقد وجد هذا النمط نموذجه القياسي في “دولة المدينة” في أثينا، وكذلك في بلدان الإمبراطورية الرومانية.
وفي هذا النمط تُعتبر قوة عمل العبيد هي قوة عمل يدوي أساسية في المجتمع، حيث كان المواطنون الأحرار يقومون أيضاً بالأعمال الإنتاجية زراعية كانت أو حِرفية أو تجارية، بينما كان أفراد الطبقة الأرستقراطية فقط والمرتبطون بدوائر الحكم هم الذين لا يمارسون تلك الأعمال.
وكان العبيد يتقسمون إلى قسمين: الأول ويُطلق عليهم “عبيد الدولة” وهم في العادة أسرى الحروب، بينما يُطلق على القسم الثاني “عبيد الأفراد” وهم في العادة العبيد الذين يقوم المواطنون الأحرار بشرائهم من أسواق النخاسة.
وقد أرست القواعد القانونية في هذه المجتمعات مجموعة رهيبة من الحقوق لمُلاّك العبيد باعتبار أن هؤلاء العبيد مثلهم مثل أي سلعة تُباع وتُشتَرى في الأسواق. وقد أستُخدم “عبيد الأفراد” في المزارع الخاصة لأفراد طبقة الأحرار، كما استُخدموا أيضاً في الورش الكبيرة للحرفيين الذين لا تكفي قوة عمل أسرهم لأداء العمليات المطلوبة، وفي النشاط التجاري الخارجي كانوا يُمثلون قوة الدفع الرئيسية في السفن، كما كانوا عُمال شحَن وتفريغ بصفة أساسية. بينما أُستخدِم “عبيد الدولة” في المشروعات العامة المُرهقة كشق الطرق وبناء التحصينات وعِمالة النقل والتجهيز للجيوش، بالإضافة إلى استخراج المعادن من المناجم.
وفي ظل هذه الظروف كانت أدوات العمل المُستخدمة أدوات العمل بدائية تعتمد في الأساس على القوة العضلية البشرية، وكان الإنتاج يكفي بالكاد حاجة السكان ومن هنا جاءت كثرة الحروب والغزوات بين القبائل والإمارات وبعضها البعض.
ويجدر التذكير هنا بأن: “مجرد وجود عبيد في مجتمع ما لا يعني بالضرورة أن يكون نمط الإنتاج السائد به نمطاً عبودياً”، حيث يتوقف ذلك على موقع هؤلاء العبيد في العملية الإنتاجية بالإضافة حجم تواجدهم الفعلي. وتأتي التذكرة هنا بمناسبة الدراسات التاريخية الحديثة لعلماء المصريات من الأجانب والمصريين والتي تنفي وجود نمط الإنتاج العبودي في مصر الفرعونية، مع التسليم بوجود عبيد في تلك الفترة.