د. محمد مدحت مصطفى يكتب: النمط المصري للإنتاج (3- 11).. الأصول الاقتصادية
وعلى الجانب الآخر نجد العديد من الدراسات الخاصة بتطور المجتمعات التي تهتم اهتماماً بالعوامل الاقتصادية ومُغفلة في نفس الوقت أهمية العوامل الاجتماعية.
ورغم أن موضوع تطور المجتمعات الإنسانية لم يكن من الموضوعات الرئيسية لعلِم الاقتصاد عند نشأته، إلا أنه كان مُتضمنَاً بطريق غير مباشر عند تناول الموضوعات الخاصة بدراسة النمو الاقتصادي.
ولعل محاولة روبرت مالتس الربط بين معدلات نمو الموارد الطبيعية ومعدلات نمو السكان من المحاولات الأولى في هذا المجال، وهذه المحاولة رغم أنها محاولة مبكرة إلا أنها لم تهمل العامل الاجتماعي الخاص بمعدلات تزايد أفراد المجتمع، وذلك إذا ما قورنت بالمحاولات الحديثة وتركيزها الشديد على العوامل الاقتصادية فقط.
ولعل أبرز مثال على ذلك محاولة والت ويتمان روستو Walt Whitman Rostow أستاذ الاقتصاد الأمريكي الشهير، ومستشار الرئيسين: جون كينيدي، وليندون جونسون ليضع في عام 1961م كتابه الشهير المعروف باسم “مراحل النمو الاقتصادي” The Stages of Economic Growth ، وكان قد سبق نشره بذات العنوان في الفصل الثالث عشر من كتابه المطبوع عام 1959م بعنوان “عمليات النمو الاقتصادي” The Process of Economic Growth.
وفي كلا الكتابين يحدد روستو أيضاً خمس مراحل لنمو المجتمعات، هي: المجتمع التقليدي، المجتمع الانتقالي، مرحلة الانطلاق، مرحلة الاكتمال، مرحلة الاستهلاك الكبير. وقد اكتسبت تلك النظرية جاذبية كبيرة عند طرحها لأول مرة، وقبل أن يثبُت فشلها، حتى أن الاقتصادي المصري الكبير الدكتور على الجريتلي حاول تطبيقها على المجتمع المصري، وذلك في كتابه المطبوع عام 1974م والذي كان قد أعده عام 1966م وظل محجوباً عن النشر طوال ثمان سنوات، بعنوان “التاريخ الاقتصادي للثورة 1952 – 1966م”.
وفي هذا الكتاب يؤكد الدكتور الجريتلي أن الاقتصاد المصري ظل في مرحلة المجتمع التقليدي حتى بداية القرن التاسع عشر، ثم دخل منذ ذلك التاريخ مرحلة التهيؤ للانطلاق، إلا أنه لم يتمكن من الانطلاق. ثم أخذ بعد ذلك في تحليل أسباب عدم دخول مصر مرحلة الانطلاق حتى تاريخ إعداد الكتاب.
المراحل الخمس لروستو:
أ- المجتمع التقليدي: The Traditional Society، وهو مجتمع زراعي بالدرجة الأولى يعمل نحو 75 % من سكانه في إنتاج الغذاء، ولا تتهيأ لهذا المجتمع القوى الإنتاجية المُتاحة للمجتمعات الصناعية حتى يستطيع أن يُسيطر على بيئته ويقوم باستغلال موارده. وهي مجتمعات متخلفة بطبيعة الحال تتسم بانخفاض الإنتاجية وانخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي، كما تتسم أيضاً بضآلة معدلات الادخار والاستثمار. وغالباً ما يُبدد معظم دخل هذه المجتمعات على غايات غير مُنتجة، وتتركز السلطة السياسية في أيدي كبار المُلاّك مدعومة بالبيروقراطية ورجال الجيش.
ب- المجتمع الانتقالي: ويُطلق عليه أيضاً “الشرط المُسبق للانطلاق” The Precondition for Take-off ، ويعتبر روستو هذه الفترة مرحلة انتقالية بين المجتمع التقليدي والمجتمع الصناعي ويتميز هذا المجتمع بحدوث تغيرات جذرية في القطاعات غير الصناعية مثل النقل والزراعة والتجارة الخارجية. وتتجلى هذه الأخيرة في ازدياد الاستيراد الذي يتم تمويله من زيادة صادرات المواد الطبيعية والمواد الخام.
وغالباً ما يرتبط تطوير النقل والمواصلات بتسويق المادة الأولية. ويتميز المجتمع هنا بتحقيق مُعدلات من النمو تكفي لتلبية احتياجات الزيادة السكانية مع الرفع النسبي في مستويات المعيشة. وعلى المستوى الاجتماعي يتسم ذلك المجتمع بالتطور التدريجي لعقليات جديدة وظهور نوازع لتقبل تقنيات جديدة، وانبثاق حرية العمل، وظهور طبقة جديدة من رجال الأعمال.
ج- مرحلة الانطلاق: The Take-off Stage وهي مرحلة حاسمة في نمو المجتمع رغم أنها مرحلة قصيرة نسبياً تستغرق عِقد واحد أو عِقدين من السنين، يزداد فيها مُعدل التوظيف، ويرتفع الإنتاج الحقيقي للفرد. وهي المرحلة التي تتضمن الثورة الصناعية، وتتسم بالتوسع السريع لمجموعة صغيرة من القطاعات التي تُعرف بالقطاعات القيادية في المجتمع. وتتسم بارتفاع مُعدلات الادخار والاستثمار إلى ما يزيد عن 10 % من الدخل السنوي للمجتمع، ولا تنخفض تلك النسبة بعد ذلك. ويحدد روستو هذه المرحلة لبريطانيا (1783 – 1802م)، ولفرنسا (1830 – 1860م)، وللولايات المتحدة (1843 – 1860م)، ولألمانيا (1850 – 1873)، ولكندا (1896 – 1914م)، ولليابان (1878 – 1900)، وبالنسبة لروسيا (1890 – 1914م).
ء- مرحلة النضج: The Drive to Maturity، وهي مرحلة طويلة نسبياً من النمو المطرد، على عكس المرحلة القصيرة السابقة، ومن أهم ملامحها انتشار النمو المرتفع من القطاعات القيادية إلى جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى، واتساع تطبيق التكنولوجيا الجديدة، وازدياد حجم العمالة الماهرة، وارتفاع مستوى نضج الإدارة الاقتصادية الرشيدة، وتحول القطاعات القائدة من الصناعات الاستخراجية (الفحم) إلى الصناعات الأساسية (الحديد والصلب)، ومن الصناعات الثقيلة إلى الصناعات الدقيقة، الاستمرار في توظيف نسبة عالية من الدخل نحو الاستثمار، زيادة النضج الفكري والفني لأفراد المجتمع ، مع ازدياد معدلات الاستهلاك.
هـ مرحلة الاستهلاك الوفير: The Age of High Mass Concumption، وهي مرحلة أخيرة من مراحل تطور المجتمعات لا يمكن بلوغها إلا بمجتمع ناضج تكنولوجياً، يبلغ فيه مستوى دخل الأفراد قدراً كبيراً من الارتفاع يُمكنهم من زيادة حجم استهلاكهم، وهو ما يُعرف “بمجتمع الرفاهية”. وفي بداية هذه المرحلة يأخذ المجتمع في التخلي شيئاً فشيئاً عن التوسع في التطبيقات الفنية ويتجه نحو إعادة الترتيبات التي تُمكنه من توجيه موارده المُتاحة لتحقيق مجموعة جديدة من الأهداف تحقق المطالب الاستهلاكية الجديدة لأفراد المجتمع. ومن ثم فإن هذه المرحلة تتضمن تحقيق ثلاث حلقات متشابكة هي: تدعيم القوة العسكرية لتأكيد التواجد على المسرح الدولي، تخفيف حدة التوترات داخل المجتمع عن طريق تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية، التوسع في مستويات الاستهلاك كماً وكيفاً.