د. محمد دوير يكتب: العامل والمثقف.. إشكال تاريخي
العلاقة بين العامل والمثقف تمثل اشكال تاريخي، خاصة داخل أروقة اليسار العالمي. فالمؤكد تاريخيا أن دعوة ماركس وانجلز في الاطروحات إلى ضرورة قيام الفلسفة بتغيير العالم لا تفسيره فحسب؛ وضع المثقف أمام مهمة كبري تجاه مجتمعه وعالمه، وتلك هي اللحظة التي تحمل فيها المثقف دورا مهما وحاسما في مسارات المجتمعات.
أما العامل بمفهومه الصناعي، فقد أوكلت له الاشتراكية دورا تاريخيا عظيما، ليس في التغيير فحسب، بل وفي انتاج نمط اجتماعي/ اقتصادي جديد، يؤهل البشرية لعالم منزوع الاستغلال.
إذن، في تقديري أن المهمة التاريخية لكل من العامل والمثقف تبدو لي واحدة وإن اختلفت في منهج كل منهما وفي تناولهما لوسائل التغيير. فإن كان مهمة المثقف هي بناء الوعي، فإن مهمة العامل هو خلق المناخ المناسب لعملية البناء هذه. وإذا كانت أدوات نضال المثقف هي الكلمة والفكرة والتفسير والتحليل، فإن أدوات نضال العامل هي الممارسة والتجربة والفعل المباشر الذي يكشف فيه عن مدي ما يتعرض له من استغلال، ودوره الحاسم في عملية الإنتاج. ومن ثم، فالمثقف يعمل في مجال الفكر والعامل يعمل في مجال الفعل، وكلاهما يكمل الآخر، كلاهما – في الفكر الاشتراكي طبعا – يسعي إلى انتاج عالم جديد.
1- مستويات الفعل الثقافي:
الثقافة بطبيعتها فعل انساني يسهم في تشكل الوعي البشري، وهي ممارسة تنقل الانسان من حالة الجهل والعيش بلا معني إلى حالة القصدية التاريخية، أي إدراك قيمة الحياة وجدواها، من خلال تراكم الخبرة وإدراك الدور الإيجابي لهؤلاء البشر الذين ناضلوا بحثا عن حياة أفضل. والثقافة لغة: تهذيب لكل ما حولنا وإنتاج معارف متسقة ونافعة مع مسارنا الإنساني. والمثقف هو الشخص القادر على توظيف معارفه من أجل مصلحة.
ولكن هذا المعني لم يرق لمفكر مهم مثل جرامشي الذي اهتم بالتمييز بين المثقف التقليدي، والذي ربما يستخدم معارفه في الدفاع عن نمط الاستغلال، كما فعل كثير من المفكرين والفلاسفة، وقال بالمثقف العضوي الذي يوقد شمعة المعرفة والوعي بين الفئات الشعبية والطبقات الاجتماعية من أجل احداث نقلة نوعية بداخلها، تؤدي إلى بناء مجتمع عادل. ومن ثم يبدو لي أن جرامشي هنا إنما اهتم بالدور الوظيفي للمثقف، أو أضاف شرطا جديدا له، بأن جعله رأس حربة المجتمع في التغيير. وربما أدرك جرامشي هنا الحقيقة التاريخية – أكثر من غيره من المفكرين – حقيقة الدور الذي قامت به الطبقة الوسطي بصفة عامة، في نقل الوعي البشري من مرحلة إلى أخري، وقدرتها على حفظ التاريخ البشري والعلوم والمعارف والفنون، ونقلها إلى أجيال أخري، ومن هذا الدور المركزي المهم للمثقفين، أنتج نظريته عن المثقف العضوي، بصفته حلقة وصل بين العلم والواقع، وبين التجربة المعاشة بكل سلبياتها والايديولوجيا الاشتراكية.
بيد أن الأمر فيما يتعلق بالمثقف لم يتوقف عند مرحلة جرامشي هذه، أي لم يتم قبول هذا الدور الوظيفي النضالي للمثقف، فذهب كثير من الفلاسفة والمفكرين إلي رفض هذا التصور الماركسي، فحاولوا انقاذ المثقف من تلك الورطة التاريخية التي تجعل الفكر في خدمة الواقع، وهؤلاء بوصفهم معادين للماركسية بالأساس انطلقوا في إعادة توظيف المثقف بطرق جديدة ، مخالفة بالأساس لما تذهب إليه الاشتراكية في موقفها من الوعي بصفة عامة ، ومن مجتمع المثقفين بوجه خاص، فقالوا بأن المثقف فوق الطبقات، ولا يعمل في صالح فئة دون أخري، وأنه مجرد باحث عن الحقيقة، في فضاء منفتح علي الجميع. ومن هنا بدأت الدراسات ما بعد الحداثية تؤسس لمنظور جديد في المعرفة، يؤدي بالتبعية إلى منظور جديد لوظيفة المثقف، التي تنحصر فقط في انتاج المعاني بصفة مستمرة ومتغيرة وكأنها تتحرك فوق جبال من الرمال. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، تماشيا مع الحرب الباردة ، ثم تماشيا مع مرحلة مع بعد سقوط وتفكك الكتلة الاشتراكية، بدأت السياسة والفلسفة والاكاديميا تعيد ترتيب المهام الجديدة للمثقف اللامنتمي، واللاعضوي، وصرنا أمام حالة ثقافية – في القلب منها المثقف – جديدة ومختلفة مفادها، أن الثقافة هي فعل انساني تلقائي ينتج من وعي المفكر، ويسير باتجاه أفراد المجتمع، دون التزام متبادل بينهما بأي شيء، فالمفكر حينما يكتب فهو لا يوجه كلامه إلي أية فئة أو طبقة بل إلي أفراد مجهولين، والمتلقي حينما يقرأ أو يستمع أو يشاهد، هو أيضا غير ملتزم بنوع معين من القراءة أو المشاهدة، إنه مستقل تماما حتي عن قصدية المؤلف، فيما يسمي لدي نظريات التلقي باستجابة القارئ الحرة والمتحررة من أي قيد أيديولوجي أو سياقي أو اجتماعي.
وبناء على ذلك، يمكن القول إننا أمام ثلاث مستويات من الحالة الثقافية، المستوي الأول هو المثقف الوظيفي التي يجعل أفكاره في خدمة النظم القائمة، سواء كانت اقطاعية أو رأسمالية، استبدادية أو دينية، رجعية أو قبائلية…الخ. والمستوي الثاني هو المثقف المنتمي أو العضوي الذي يجعل من وعيه وثقافته فعلا إيجابيا في خدمة المجتمع الطبقات الأقل حظا، وخطوة في طريق المستقبل وبناء عالم جديد. والمستوي الثالث هو المثقف اللامنتمي، الذي لا يدين بولاء مشروعه الثقافي لأي جهة ما، ولا يعتقد أن له دور في التاريخ الإنساني، ويكتفي فقط فإفراز حالته الإبداعية دون البحث عن مهام لتلك الحالة، إن المثقف هنا ينتج نفسه فقط ولا ينشغل بمن المستفيد من هذا الإنتاج.
وإذا كنا مهتمين هنا بالمستوي الثاني، وأعني المثقف العضوي، فيبقي السؤال، وما علاقة هذا المثقف بالعامل؟ إن العلاقة جد مؤكدة وضرورية، وربما لا تكتمل وظيفة المثقف دون وعيه التام بالكيفية التي يدير بها المجتمع آلياته وصور انتاجه المادي، تأكيدا لدور البناء التحتي في نسج خيوط البنية الفوقية. فإذا كانت العلاقة ضرورية، فما هي شروطها إذن؟ أهم هذه الشروط هي أولا: أن يمتلك المثقف الوعي الكاف للدور التاريخي لفكرة العمل – وهذا ما سنتحدث عنه بعد قليل – وثانيا: أن يدرك المثقف الأهمية التاريخية لتطور عمليات الاستغلال الجماعي والفردي الذي يمارسه الانسان على أخيه الانسان، وأن تلك النزعة الاستغلالية هو منتج بشري مستقل تماما عن أي معني ميتافزيقي أو ديني، ومن ثم فهو – أي الاستغلال – اعتداء مباشر على إنسانية الإنسان. وثالثا: أن خروج المثقف من حظيرة المسئولية تجاه المجتمع، له نتائجه السلبية والقاسية التي تشبه إلى حد كبير هزيمة جيش في معركة فاصلة، أي أن المثقف اللامنتمي يسهم بدرجة كبيرة في مزيد من تحميل أعباء التغيير على فئات غيره، ومن ثم يؤجل الي حد كبير هذا التغيير. هذا عن المثقف فماذا عن العامل؟
2- العامل والعمل والتغيير
قبل أن نتحدث عن العامل كطرف ثان في هذا المقال، يجدر بناء أولا أن نقترب من مفهوم العمل، فهو يعني القدرة البشرية علي نقل شيء ما من حالة إلي أخري، كأن تتحول قطعة الحديد إلي سكين، أو البذرة إلي ثمرة، أو مادة ما في قلب الأرض إلي شيء يمكن استعماله…الخ.. ومع تطور العلم والحياة الاجتماعية اكتسب مفهوم العمل دلالات أخري كثيرة ودخل في نطاقه أنشطة بشرية متعددة، مثل العمل الذهني .
وفلسفة العمل هي أهم ظاهرة يمكن أن يتميز بها البشر عن غيرهم من الكائنات، ذلك أنه عمل مقصود يتضمن خيالا وابداعا وقصدية تهدف إلي مزيد من رفاهية البشر.
وكان من الطبيعي أن يتسم العمل بوضعية خاصة داخل الحضارات الإنسانية، حيث يحمل قيمة سامية وعليا لأنه القادر على تغيير وجه الحياة. ومن هنا كان الصراع حول العمل مهما عبر التاريخ، فهو الوظيفة الأهم، والأكثر جدوى، ومن هنا حرص الانسان منذ بواكير المجتمعات المشاعية على تقديس قيمة العمل. وتدريجيا ونتيجة للصراع الاجتماعي أصبح العمل هو الأداة التي تنقسم بها المجتمعات، بين عبيد وأسياد، أي عمال ومالكين، ومع مزيد من التطور تحول العمل إلى مؤسسة منظمة يديرها الملاك، مؤسسة لها قوانينها وقواعدها وتقاليدها.. وكان من الصعب أن تستمر حالة العبودية تلك، فظهرت النقابات العمالية التي تدافع عن العمال، وبدأ النضال العمالي يتطور حتي أمكن وضع نظرية ثورية لتحرير الطبقة العاملة في منتصف القرن التاسع عشر علي يد ماركس وانجلز، وخلال عقود قليلة كانت تلك النظرية الثورية جزءا من مكونات العالم الحديث.
ومنذ ذلك الحين تم النظر للعامل بصورة مختلفة تماما، فاتسعت النقابات العمالية والمهنية بعد ذلك، وصار للطبقة العاملة أحزابها السياسية، وبرامجها الثورية ودعواتها للتغيير، وتحول مفهوم العامل جذريا وصار مدركا بصورة أكبر لدوره التاريخي، وقيمته وأهميته في صناعة العالم الحديث.
هنا، كان طبيعيا أن تحدث حالة تقارب بين العامل والمثقف، فجمعتهما الأحزاب الاشتراكية، وجلسا جنبا إلى جنب في الاجتماعات والمؤتمرات والفاعليات، وخاضا سويا المعارك الانتخابية. فكان من أهم نتائج ذلك التعاون المشترك زيادة الوعي الطبقي لدي العمال، وتنامي الوعي الاجتماعي لدي المثقفين، وهو ما انعكس بالإيجاب علي الحد من سطوة رجال المال والصناعة، ورجال الحكم والسياسة، وتم إعادة تقسيم الخريطة السياسية في كثير من المجتمعات وفقا لثنائية جديدة، وهي أصحاب الأملاك الزراعية والصناعية والتجارية ومن عاونهم من رجال الفكر والسياسة، في مقابل الفلاحين والعمال والمثقفين العضويين، ودارت رحي المعارك السياسية علي هذه القاعدة الجديدة..
إذن نستطيع القول، أن وحدة العامل والمثقف أنتجت عالما جديدا، من خلاله تم بث روح جديدة في الفكر السياسي والنضال الإنساني والاجتماعي، وتحول العامل إلي مثقف عضوي بعد اكتسابه الوعي، كما تحول المثقف إلي عامل عضوي أيضا بعد اكتساب أفكاره القيمة العملية التي تحدث عنه ماركس في الاطروحة الحادية عشر عن تغيير العالم وليس تفسيره فحسب..
إن ثنائية العامل المثقف إذا ما قدر لها أن تدخل في علاقة جدلية صحيح، قادرة علي أن تحدث الكثير من التحولات داخل المجتمع، حتي وإن لم تستطع تغيير الأوضاع ، فعلي الأقل ستكون قادرة علي مواجهة الصعاب، والحد من النزيف اليومي التي يتعرض له كل الشغيلة في المجتمع..