د. محمد حسن خليل: صفقة القرن واستراتيجية النضال العربى
تأتى صفقة القرن التى وصفت بحق بأنها انتداب إسرائيلى أمريكى على فلسطين أقسى من الانتداب البريطانى، لكى تمثل أحدث حلقة فى المخطط الإسرائيلى الإمبريالى لفرض الاحتلال على أكثر من 80% من أرض فلسطين التاريخية وتعطى إسرائيل المجال واسعا للاندماج، بالاشتراك مع الإمبريالية العالمية، فى الوسط العربى من خلال تعاون اقتصادى وسياسى تقوده إسرائيل يُتَوِّجه حلف عسكرى فى مواجهة إيران.
لقد ركز الكثير من المحللين على عنصر الصفقة الانتخابية فى المبادرة التى تعظم من فرص فوز كل من ناتينياهو وترامب فى الانتخابات المقبلة، وهو عنصر صحيح، ولكن الأخطر هو سياق المبادرة فى سياسة الانحياز للمخطط الإسرائيلى الأمريكى العدوانى المشترك لإلغاء حقوق الشعب الفلسطينى والهيمنة على المنطقة. ومن المهم لنا فى تحليل تلك الصفقة أن نركز أولا على تحليل العدو، بدءا بالعدو الإسرائيلى، ونواحى قوته وضعفه الاستراتيجية، لكى ننتقل إلى تحليل الأطراف الأساسية للتناقض الجوهرى فى المنطقة العربية.
وفى الوقت الذى يكثر فيه الحديث عن عناصر القوة الاستراتيجية لإسرائيل النووية المتوسعة وحلفائها، نجد أن هناك انقساما استراتيجيا داخل دوائر صنع القرار الإسرائيلى، وانتباه عدد هام منها إلى عناصر الضعف الخطيرة فى الكيان الصهيونى. مثلا فى الذكرى السبعين للنكبة يحذر كاتب إسرائيلى من عناصر الضعف تلك بتخوفه من أن لا تأتى الذكرى المائة وإسرائيل ما تزال موجودة! بل إن فى اجتماع ناتينياهو الأخير مع قيادات الشاباك يبرز التناقض بين الرؤية المتفائلة لناتينياهو والرؤية المتشائمة حتى لقيادته الأمنية.
لم يختلف القادة الإسرائيليون بالطبع بما تفاخر به ناتينياهو بهزيمة تيار القومية العربية وسعى معظم الدول العربية لعقد علاقات مع إسرائيل يتوجها التعاون الاستخبارى، غير التطبيع الاقتصادى، والسياسى البازغ، والاستعداد للتبادل الدبلوماسى الكامل معها. ولكن الاختلاف كان فى تصور ناتينياهو عن أن بلاده تعيش “ازدهارا دبلوماسيا واقتصاديا وعمليا وعسكريا لا مثيل له” فى مواجهة ضخامة ما يشعر به القادة الاستراتجيين لإسرائيل من عناصر الضعف الخطيرة الخارجية والداخلية. لقد كشفت دراسة صادرة عن مركز أبحاث الأمن القومى الإسرائيلى عن وجود فجوة حسابات بين ناتينياهو والعسكريين الواقعيين الذين يتحدثون عن خطورة وصول إيران إلى حدودهم مع سوريا ولبنان (حزب الله) حيث يمكن أن تشكل، فى حالة الحرب مع إيران، تدميرا خطيرا لا تنفع معه القبة الصاروخية كما لم يحمِ الدفاع الصاروخى الأمريكى قواعده التى ضربتها الصواريخ الإيرانية فى العراق!
ولكن العنصر الأكثر خطورة الذى ينبهون له هو، على حد ما صرح به الجنرال يتسحاق بريك مفوض شكاوى الجنود السابق فى الجيش الإسرائيلى فى صحيفة يديعوت أهارونوت، عن أن الجبهة الداخلية أكثر هشاشة لتحمل مخاطر أى حرب! أما رئيس الأركان الإسرائيلى السابق أمنون شاحاك فيحذر من خطورة غياب ما يسميه “المرونة الوطنية” بمعنى “قدرة الجبهة الداخلية والمجتمع الإسرائيلى على تحمل تبعات الحرب والتغلب على الاضطرابات الشديدة والحفاظ على درجة معقولة من الاستمرارية الوظيفية خلال فترة الشفاء والتعافى السريع بعد انتهاء الحرب”! إن أكثر من ثلث الإسرائيليين فى سن التجنيد يطالبون بإعفائهم من التجنيد! بل تحذر دراسة مركز أبحاث الأمن القومى من أن “الجمهور فى الكيان لا يدرك ولا يفهم المخاطر الكامنة فى المواجهة المستقبلية فحسب بل يظل كذلك غير مبال بها”!
وإذا كنا نوضح هنا عناصر الضعف الاستراتيجية فى مجتمع الكيان الإسرائيلى (وأحد أدلته الصارخة أن سنوات حرب الاستنزاف المصرية 1968- 1970 هى السنوات التى أصبح معدل الهجرة إلى إسرائيل سالبا بالهجرة العكسية للإسرائيليين للخارج) فإننا لا نغفل عناصر القوة كما أوضحنا، ولكننا نطمح إلى الرؤية المتكاملة للذات والعدو.
بعد انتشار مصطلح “الصراع العربى الإسرائيلى” يجب هنا إن نوضح أن التناقض الجوهرى فى منطقتنا هو بين مصالح جماهير شعوبنا العربية فى الحرية والعدالة والتنمية، وبين الإمبريالية العالمية وخنجرها الكامن فى ظهرنا المتمثل فى إسرائيل. لم تكن إسرائيل لتوجد، ثم لتعيش، ثم لتتوحش كما تفعل الآن دون أن تكون مستندة للإمبريالية البريطانية فى فترة ثم للامبريالية العالمية بقيادة أمريكا فى فترة أخرى. والنضال المطلوب لا يقتصر على النضال السياسى الباسل للشعب الفلسطينى فى كل مكان ضد إسرائيل، ولكنه أيضا الترابط مع نضال الجماهير العربية ضد الإمبريالية والأنظمة العربية التابعة من أجل الحرية والعدالة والتنمية.
وفى تلك المواجهة لابد وأن نرى أن تزعم البرجوازية القومية، التى كانت وطنية ومعادية للاستعمار فى مرحلة ما من تطورها، للعداء للاستعمار وإسرائيل قد فشلت، وأنجزت فى فترتها التالية التبعية الاستعمارية الاقتصادية والسياسية التى نرزح تحت براثنها حتى الآن. لم يحدث هذا فقط نتيجة للمؤامرات الإمبريالية، بل أيضا وأساسا نتيجة لعناصر ضعفها الداخلية وعلى رأسها استبعاد الجماهير من المواجهة، والإصرار على الحرب النظامية ونفى الحرب الشعبية، بل والقضاء على الديمقراطية والقوى السياسية الشعبية. لابد وأن نتعلم أنه لا مواجهة ناجحة حتى النهاية بدون شعوب عربية واعية ومنظمة وتحرير أنفسها من الاستعمار والتبعية وتحرير فلسطين بالكامل بدون عناصر القوة الداخلية التى ترتبط بالنضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة وإنهاء التبعية.
يبرز فى تلك المواجهة المغزى التاريخى للثورات والانتفاضات العربية. لقد رأينا فى موجتها الأولى عام 2011 كيف كانت الثورة التونسية البادئة ملهمة للثورة فى مصر وملهمة لشعوب الأمة العربية، حيث تبادلت الثورات الشعارات وأساليب العمل. أما موجتها الثانية فى 2019 فى الجزائر والسودان ولبنان والعراق، فقد ظهر فيها التأثير والاستفادة من دروس الموجة الأولى. ولعل السودان مثالا بارزا على التقدم فى نواح هامة عن الموجة الأولى بتأسيس جبهة شعبية منذ عام 2010، وفى التعامل مع النظام. والآن تعانى دول موجة الثورات الأولى والثانية من مرحلة هيمنة سطوة صندوق النقد الدولى وسياساته الاستعبادية لجماهيرنا على يد الثورة المضادة سواءً التى استطاعت استعادة النظام القديم فى بلدان الموجة الأولى أو فى دول المرحلة الثانية الآن كما هو واضح فى لبنان والسودان. إن الهشاشة الاقتصادية لتلك الدول وتبعيتها للغرب بالإضافة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية بسبب الثورات نفسها قد مثلت فرصة لصندوق النقد الدولى للتدخل لإقراض الحكومات المأزومة فى مقابل فرض مزيد من سياسات الليبرالية الجديدة فى الانفتاح والخصخصة.
رغم ذلك لقد مثلت تلك الثورات والانتفاضات أول تحركات شعبية عربية واسعة للجماهير منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا شك فى انها تمثل البديل التاريخى للأنظمة العربية التابعة. رغم التعقد الطبيعى لمسارات التاريخ التى لا تشهد تحقيق الأهداف عبر حلقة واحدة بل تحتاج إلى نضال متواصل متعدد الحلقات، إلا أن الجماهير قد دخلت إلى الساحة السياسية بقوة لتحديد مستقبلها، ولن تخرج بعد ذلك أبدا مهما انتصرت الثورة المضادة لفترات بعد الثورة. هذا هو قانون جميع الثورات.
إن هذا المؤشر لبداية العصر الجديد للجماهير يجب ألا تغيب عنا مؤشرات استمراريته مهما طغت مظاهر تسابق الأنظمة العربية للتبعية السياسية والاقتصادية واقتحامها للمحرمات بعلاقاتها مع إسرائيل، فإن الوجه الآخر لها هو الفضح الجماهيرى لتلك الأنظمة والإسقاط السياسى لها، وهو لا شك العنصر الضرورى لإسقاطها مستقبلا.
لم تنجح الأنظمة فى مواجهتها الأولى للاستعمار فى أعقاب الحرب العالمية الثانية فى تحويل القومية العربية إلى أمة عربية متكاملة تستلزم بالضرورة وجود طبقة برجوازية عربية واحدة وطبقات شعبية واحدة. وهكذا انتقلت مهمة استكمال تكوين الأمة العربية إلى محور الشعوب. إننا نشهد الآن موجة غروب الصلاحية التاريخية للأنظمة العربية يواجهها شروق الحركات الجماهيرية السياسية والشعبية على أسس جذرية بدون أوهام حول برجوازية وطنية مزعومة.
ولقد رأينا أن آخر تلك الهجمات المتمثلة فى صفقة القرن تصاحبها موجة ناهضة لرفض جميع الشعوب العربية من المشرق والمغرب فى مواجهة تلك الصفقة، وهو لاشك يضع بعض العراقيل أمام استمرارية خطوط الاستسلام والتطبيع المخزية، لكنه أيضا يشكل مستقبل الشعوب التى تتحرك فى اتجاه واحد فى مواجهة الإمبريالية وإسرائيل.
إن هذا يفرض على جميع القوى التقدمية العربية أن تنتبه إلى المخطط الإمبريالى الموحد الذى يسعى لإخضاع الدول العربية وتوعية جماهيرها بها، وتنظيم تلك الجماهير حول شعارات واضحة حول طبيعة الأعداء. كما يفرض على تلك القوى تأسيس جبهات داخلية حول تلك الشعارات المشتركة على غرار المثال الملهم للثورة السودانية وما سبقها بحوالى عقد من الزمان من جبهة كان لها أكبر الأثر فى قيادة الثورة حينما انفجرت.
وبالطبع بجانب تشكيل جبهات تقدمية حول شعارات المرحلة ضد أنظمتها وضد سطوة التبعية وهيمنة صندوق النقد الدولى، ومع الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الكامل، بجانب هذا لابد من التركيز على تشكيل الجبهة العربية المشتركة على أساس التحديات والقضايا الملحة الواحدة لكل الدول، وتبادل الخبرات، وتبادل الدعم الجماهيرى (ولقد رأينا فى مظاهرات المغرب الضخمة ضد صفقة القرن نموذجا رائعا لها). إن بناء مستقبل الشعوب المشرق، المهمة الملحة، له صعوباته البالغة، ويستلزم حلقات متتالية من النضال وكل حلقة تقربنا من تحرير الشعوب، لكن يجب البعد عن وهم إمكانية تحقيق كل الأهداف بضربة واحدة، ونتيجته المتمثلة فى السقوط فى الإحباط إذا لم تحقق الحلقة الأولى من الثورة كل أهدافها. كل المستقبل للقوى الجماهيرية التى بدأت حركتها بدون عودة، ولتنهض قياداتها الشعبية لمواجهة عبئ تلك المهام الصعبة وخلق الوحدة الكفاحية العربية الحقيقية فى سياق مواجهة الهيمنة الإمبريالية وصنع الديمقراطية والتنمية الاقتصادية.
(ملحوظة: الاقتباسات بخصوص التصريحات عن الصحف الإسرائيلية مأخوذة من مقالات د. محمد السعيد إدريس بالأهرام القاهرية عددى 28 يناير و4 فبراير 2020).