د. ماجد الجبالي يكتب: صعود خطاب الإنسانية وسقوط خطاب ديكتاتوريات القومية في غزة
بينما تتعرض غزة لإبادة جماعية، يصمت كثير من القادة العرب والمسلمين أو يكتفون بخطاب دبلوماسي باهت، يعلو صوت أميركا اللاتينية من أقاصي الجنوب العالمي: جوستافو بيترو في كولومبيا، لولا دا سيلفا في البرازيل، ومعهما بوليفيا وتشيلي وفنزويلا والمكسيك ونيكاراغوا. هذه الأصوات، على اختلاف توجهاتها، تلتقي على اعتبار فلسطين قضية إنسانية كونية تتجاوز القومية والدين، وتفضح نفاق النظام الدولي. هنا المفارقة: في الوقت الذي سقط فيه الخطاب القومي العربي والإسلامي، استعادت أميركا اللاتينية زمام المبادرة الإنسانية الأخلاقية .
منذ الخمسينيات، رفع الخطاب القومي العربي راية فلسطين باعتبارها قضية الأمة. غير أن الهزائم العسكرية والتسويات السياسية فرّغت هذا الخطاب من مضمونه. أما الخطاب الديني، فقد تحوّل إلى أداة للصراعات الداخلية أو لتبرير الاستبداد، وفقد طاقته التعبوية خارج إطار الشعارات. في حرب غزة الأخيرة، تجلّى هذا السقوط: بيانات شاحبة، غياب موقف فاعل، وعجز عن تحويل القضية إلى معركة إنسانية. لقد انكشفت حدود القومية والدين حين تخلّيا عن البعد الإنساني للعدالة.
في كولومبيا، جعل جوستافو بيترو من فلسطين اختبارًا للإنسانية اسم حزبه السياسي. لم يرها “قضية العرب”، بل رمزًا للتحرر من القهر. صوته يستعيد صدى قول خوسيه مارتي: “الوطن هو الإنسانية”. وباستحضاره ذاكرة بلاده المثقلة بالعنف، يربط بيترو بين غزة وكولومبيا: كلاهما ضحية عسكرة الحكم واستعمار وتواطؤ دولي وبدعم اسرائيلي امريكي. كما كتب غابرييل غارسيا ماركيز في خريف البطريرك: “الطغاة يقتاتون من دماء شعوبهم”. غزة تصبح في خطاب بيترو استمرارًا لهذا المشهد الدموي على نطاق عالمي.
في البرازيل، أعلن لولا دا سيلفا أن ما يحدث في غزة إبادة جماعية، ودعا إلى محاكمة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية. لولا كان شاهدا على دعم اسرائيل لمحاولات الإنقلاب في بلاده، فجعل فلسطين في صميم سياسة البرازيل الخارجية، وجعل من بلده صوتًا للديمقراطية الإنسانية في مواجهة النظام الدولي المزدوج المعايير للمحافظين الجدد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل.
اسم حزب جوستافو بيترو “الانسانية”، اسم حزب لولا “العمال” وكلاهما مقولتان مغيبتان في الخطاب العربي في الآونة الأخيرة لصالح انظمة تابعة. ففي السياق المصري، لا يوجد أي حزب أو تنظيم سياسي قوي للعمال المصريين والعمل النقابي يتعرض للملاحقات والمؤسسات المدنية غير مستقلة.
مواقف أمريكا اللاتينية التي كانت تأن من التدخلات الاسرائيلية لزعزة أنظمتها الديمقراطية تؤكد أن فلسطين لم تعد قضية قومية بل جغرافيا مشتركة للضميرالإنساني. وكما كتب إدواردو غاليانو: “شرايين أميركا اللاتينية لا تزال تنزف”. اليوم، غزة تُضاف إلى هذه الشرايين النازفة.
بينما ينهار الخطاب القومي والديني العربي أمام امتحان غزة، يصعد خطاب إنساني لاتيني يعيد للقضية بعدها العالمي. لكن هذه الجدلية تضع العرب والمسلمين أمام سؤال وجودي: هل لازالوا قادرون على التحرر بقراءة تاريخهم بشكل إنساني مشترك مع باقي البلدان الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية؟
القضية لا تتعلق فقط بمن يتكلم، بل بمن يملك شرعية أخلاقية إنسانية في زمن الذاكرة القومية الدينية الجريحة. العرب تخلّوا عن هذا الموقع لصالح خطابات قومية معادية للإنسانية، فيما استعادت أميركا اللاتينية إنسانيتها الديمقراطية بخطاب يربط بين فلسطين وتجربتها التاريخية ضد القهر والانقلابات المدعومة أمريكيا واسرائيليا.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا تحت الحصار، بل مختبر للخطابات: خطاب ديكتاتوريات قومية ينهار، خطاب ديكتاتوريات دينية تتآكل، وخطاب إنساني يصعد من أنظمة ديمقراطية في الجنوب العالمي.
من كولومبيا إلى البرازيل، ومن بوليفيا إلى تشيلي وفنزويلا ونيكاراجوا، صارت فلسطين رمزًا جامعًا للإنسانية في وجه الاستعمار والإبادة.إن صعود الإنسانية في خطاب أميركا اللاتينية لا يلغي القوميات والدين، لكنه يكشف هشاشتهما حين ينفصلان عن بعدهما الإنساني. وكما كتب الكاتب الكولومبي ألفارو موتيس: “لا خلاص بلا إعادة كتابة التاريخ “. غزة اليوم هي دعوة لإعادة قراءة التاريخ: مرآة امتحان لضمير البشرية المجروح.

