د. عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب: من الرابح من فيروس كورونا؟؟
شركات الدواء الكبرى تستعد للربح من وباء فيروس كورونا. تحت هذا العنوان كتبت شارون ليرنر مقالا في 13 مارس الجاري نشر على موقع “ذي إنترسيبت”، وهي صحفية متخصصة في الصحة والبيئة تكتب في عدة صحف منها نيويورك تايمز وواشنطون بوست وغيرها، وحصلت على جوائز من جمعية الصحفيين البيئيين ومن الجمعية الأمريكية للصحة العامة ومن معهد النساء والسياسة ومن نادي أخبار النساء في نيويورك.
بينما ينشر فيروس كورونا المرض والموت والكوارث حول العالم، ويعصف بكافة قطاعات الإقتصاد بحيث لا يتوقع أن ينج قطاع اقتصادي من أضراره، وسط الفوضى الناجمة عن الوباء العالمي، هناك صناعة واحدة سوف لن تستمر فحسب، بل ستزدهر، وتحقق أرباحا طائلة.
قال جيرالد بوسنر “شركات الدواء ترى في (كوفيد-19)، فرصة العمر التي لا تأتي سوى مرة واحدة للإزدهار وتحقيق الأرباح”. وهو مؤلف كتاب: “فارما- الجشع والأكاذيب وتسميم أمريكا”. العالم يحتاج إلى المنتجات الصيدلانية دائما.
أما بالنسبة لتفشي الفيروس التاجي الجديد على وجه الخصوص، فنحن في حاجة إلى الأدوية واللقاحات، وإلى مزيد من التجارب والاختبارات. عشرات الشركات في الولايات المتحدة تتصارع الآن من أجل صناعتها. قال بوسنر إنهم جميعا “منخرطون في السباق”، ووصف المكاسب المحتملة للفوز في السباق بأنها هائلة، وقال أنه من المرجح أن توفر الأزمة العالمية مناخا مواتيا لازدهار مبيعات وأرباح صناعة الدواء، وأضاف أنه “كلما ازدادت حدة الوباء وانتشاره، زادت أرباحهم النهائية”.
إن القدرة على كسب الأموال من صناعة الدواء هي قدرة كبيرة بالفعل بشكل فريد في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تفتقد إلى القواعد الأساسية لتحديد أسعار الأدوية مقارنة بالبلدان الأخرى، ما يمنح الشركات هنا حرية أكبر في تحديد أسعار منتجاتها أكثر من أي مكان آخر في العالم. توفر الأزمة الحالية فرصة أفضل لصناع المستحضرات الصيدلانية بسبب نفوذ جماعات الضغط في صياغة القوانين وفي تخصيص حزمة إنفاق بقيمة 8.3 مليار دولار لمواجهة فيروس كورونا، التي تم إقرارها قبل أسبوعين، لزيادة أرباحهم من الوباء إلى أقصى حد.
في البداية، حاول بعض المشرعين التأكيد على توفير ضمانات تمكن الحكومة الفيدرالية من وضع حدود لما سوف تجنيه شركات الأدوية من اللقاحات والعلاجات للفيروس التاجي الجديد، الذي يحاولون تطويره باستخدام المال العام.
في فبراير الماضي، كتبت النائبة الجمهورية “جان شاكووسكي”، من إلينوي، وأعضاء آخرين في مجلس النواب، إلى ترامب مطالبين بأن يضمن أن أي لقاح أو علاج يتم تطويره بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين، يمكن الحصول عليه وسيتاح بأسعار معقولة”. وقالوا أنها هي أهداف لا يمكن تحقيقها “إذا تم إعطاء شركات الأدوية سلطة تقرير كميات الإنتاج وطرق التوزيع وتحديد الأسعار، واصبح تحقيق الأرباح مقدما على الأولويات الصحية”.
أثناء المفاوضات التي جرت حول تمويل مشروعات الفيروس التاجي، حاول شاكوفسكي مرة أخرى، وكتب إلى “أليكس عازار” وزير الصحة والخدمات الإنسانية في 2 مارس، أنه لن يكون مقبولا أن يتم منح شركات صناعة الدواء حقوقا حصرية للملكية الفكرية ولإنتاج وتسويق هذا اللقاح، دون وضع شروط للتسعير وضمان إمكانية الوصول إليه، ما يسمح للشركات بتحقيق ما تريده وأن تبيع اللقاح مرة أخرى للجمهور الذي دفع ثمن تطويره”.
لكنه كثير من النواب الجمهوريين عارض إضافة فقرة بهذه المطالب إلى مشروع القانون، وكانت حجتهم أن من شأنها أن تحد من قدرة الصناعة على الربح وأن تخنق البحث والابتكار.
وعلى الرغم من أن عازار، الذي كان يشغل منصب كبير جماعات الضغط (اللوبي)، ورئيس العمليات الأمريكية لشركة الأدوية العملاقة “إيلي ليلي”، قبل انضمامه إلى إدارة ترامب، أكد لشاكوفسكي أنه يشاركه القلق، إلا أن مشروع قانون حزمة المساعدات خرج في صورة ترضي الشركات تماما، وتكرس قدرتها المنفردة على تقرير أسعار باهظة محتملة للقاحات والأدوية التي يطورونها بأموال دافعي الضرائب.
خرجت الصيغة النهائية بعد أن حذفت منها فقرة تؤكد على أن تكون حقوق الملكية الفكرية للشركات محدودة، وحذفت أيضا فقرة وردت في مسودة سابقة كانت تسمح للحكومة الفيدرالية، باتخاذ أي إجراء إذا كانت أسعار اللقاحات أو العلاجات المطورة بأموال عامة باهظة الثمن. وقال بوسنر: أن جماعات الضغط هذه يستحقون جائزة من عملائهم في شركات الدواء، لأنهم ضمنوا لهم حقوق الملكية الفكرية دون مقابل، وأضاف إن ما هو أسوأ كان حذف الفقرة التي تسمح للحكومة بالتدخل ردا على التلاعب بالأسعار. “إن السماح لهم بالحصول على هذه القوة أثناء الوباء أمر مشين”.
الحقيقة هي أن الاستفادة من الاستثمار العام هي أمر معتاد في قطاع صناعة الدواء. وفقا لحسابات بوسنر، قدمت المعاهد الوطنية للصحة منذ ثلاثينيات القرن الماضي حوالي 900 مليار دولار للبحوث التي استخدمتها شركات الدواء في الحصول على وتسجيل براءات اختراع الأدوية بأسماء علاماتها التجارية الخاصة. وطبقا لمجموعة الدفاع عن المرضى من أجل العلاج بأسعار معقولة، فإن كل الأدوية التي تمت الموافقة عليها من قبل إدارة الغذاء والدواء بين عامي 2010 و 2016 قامت على علم تم تمويله بدولارات دافعي الضرائب من خلال المعاهد الوطنية للصحة. وقدم دافعو الضرائب أكثر من 100 مليار دولار لهذه البحوث.
من بين العقاقير التي تم تطويرها بمساعدة المال العام، والتي أصبحت مصدرا لتحقيق أرباح هائلة للشركات الخاصة، عقار فيروس نقص المناعة البشرية (AZT) وعلاج السرطان (Kymriah)، التي تبيعها شركة “نوفارتس” الآن بحوالي 475 ألف دولار.
يشير بوسنر في كتابه “فارما” إلى مثال آخر على أن الشركات الخاصة تحقق أرباحًا هائلة من الأدوية والعقاقير المنتجة بتمويل عام. عقار سوفوسبوفير (sofosbuvir) المضاد للفيروسات الذي يستخدم لعلاج الإلتهاب الكبدي الوبائي (سي) كان نتاجا لبحث رئيسي مولته المعاهد الوطنية للصحة، هذا العقار مملوك الآن لشركة “جلعاد ساينسز”، التي تتقاضي 1000 دولار مقابل كل حبة، وهو أغلى بكثير من قدرة غالبية المرضى المصابين بالإلتهاب الكبدي الوبائي.
ربحت شركة جلعاد أكثر من 44 مليار دولار خلال السنوات الثلاثة الأولى من نزول العقار إلى الأسواق. ويتسائل بوسنر، “أليس من الواجب أن تعود بعض أرباح تلك الأدوية لتمويل البحوث في المعاهد الوطنية للصحة؟”. لكنها بدلاً من ذلك، مولت الأرباح مكافآت ضخمة لمديري شركات الأدوية، والتسويق العدواني للأدوية على المستهلكين، كما تم استخدامها لتحقيق مزيد من الربحية في قطاع الدواء.
وفقا لموقع “أكسيوس” الإلكتروني تحصل شركات الدواء على 63% من إجمالي أرباح قطاع الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى نجاح جهود جماعات الضغط (لوبي) التابعة لها. أنفقت شركات صناعة الدواء في العام الماضي فقط 295 مليون دولار على جماعات وحملات الضغط، وهو مبلغ أكبر بكثير مما أنفقه أي قطاع آخر في الولايات المتحدة، فهو يعادل ضعف ما انفقته شركات قطاع الإلكترونيات والتصنيع والمعدات، وأكثر من ضعف ما أنفقته شركات النفط والغاز على جماعات الضغط. كما تقدم شركات صناعة الدواء المال بسخاء على حملات المرشحين والنواب الديموقراطيين والجمهوريين. وطوال فترة الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي، وكان “جو بايدن” أول وأكبر المستفيدين من مساهمات شركات الرعاية الصحية والصناعات الدوائية. ومكن هذا الإنفاق الكبير على جماعات الضغط صناعة الدواء من احتلال مواقع أفضل نسبيا خلال أزمة الوباء الحالي. فبينما تراجعت أسهم كثير من الشركات، كرد فعل على تخبط إدارة ترامب للأزمة، نجت أكثر من 20 شركة تعمل على اللقاح ومنتجات أخرى تتعلق بالفيروس الجديد: (SARS-CoV-2)، من الهبوط.
في نفس الوقت، ارتفعت أسعار أسهم شركة التكنولوجيا الحيوية “مودرنا” (Moderna)، التي كانت قد بدأت قبل أسبوعين في إجراء تجارب سريرية على المشاركين للقاحها الجديد للفيروس التاجي. يوم الخميس، الذي وصف بأنه المذبحة العامة لأسواق الأسهم، حظيت أسهم شركة “إيلي ليلي” بدفعة واضحة بعد أن أعلنت الشركة أنها، أيضا، تنضم إلى جهود التوصل إلى علاج للفيروس التاجي الجديد.
كذلك انتعشت أسعار أسهم شركة “جلعاد ساينسز” التي تعمل على علاج محتمل. كان سعر سهم شركة “جلعاد” مرتفعا بالفعل منذ الإعلان عن ان عقار “ريمديسفير” (remdesivir) المضاد للفيروسات، الذي تم إنتاجه لعلاج فيروس الإيبولا، قد تم اعطاؤه لمرضى كوفيد-19، وارتفع أكثر بعد أن ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” في 13 مارس أن العقار كان له تأثير إيجابي على عدد صغير من ركان السفن السياحية المصابين بالفيروس، ارتفع سعر السهم أكثر.
وكشفت عدة شركات اخرى، تشمل شركات “جونسون أند جونسون”، و”دايا سورين موليكلار”، و” كياجين”، أنها تتلقى تمويلا من وزارة الصحة والخدمات الإنسانية للبحوث المتعلقة بالوباء، ولكن ليس واضحا ما إذا كانت شركتا “إيلي ليلي” و”جلعاد ساينسز” تستخدمان التمويل الحكومي في أعمالهم على الفيروس، وحتى الآن لم يصدر فريق العمل التابع للبيت الأبيض قائمة كاملة بالشركات التي تتلقى المنح الحكومية.
بحسب وكالة الأنباء “رويترز”، طلبت إدارة ترامب من كبار مسؤولي الصحة اعتبار مناقشاتهم حول الفيروس التاجي رسمية وسرية، وطلب منها أن تستبعد من مداولاتها من لا يملكون تصاريح أمنية. وجدير بالذكر، أن كبار جماعات الضغط التابعة للشركات وأعضاء سابقين في كل من “إيلي ليلي” و”جلعاد ساينسز”، يعملون الآن في فريق عمل البيت الأبيض لفيروس كورونا. “أليكس عازار” كان يعمل كمدير لعمليات شركة “إيلي ليلي” في الولايات المتحدة، وكان يترأس جماعة الضغط التابعة للشركة، أما “جوي جروجان”، الذي يشغل حاليا موقع مدير مجلس السياسة الداخلية، فكان يترأس جماعة الضغط التابعة لشركة “جلعاد ساينسز”.
إلى هنا انتهى المقال، وتتبقى ملاحظات أخيرة:
- تسلط أزمة فيروس كورونا الضوء على أوجه الخلل والقصور في النظام الرأسمالي، خصوصًا في النموذج الأمريكي المتطرف، إتضح أن عدم الحصول على رعاية صحية شاملة، وعدم السماح للعمال الحصول على إجازات مرضية مدفوعة الأجر، وخفض الضرائب على الشركات، والسماح لشركات الدواء العملاقة بالقيادة في مشروع إنتاج اللقاحات، وإطلاق يدها في تحديد الأسعار، ليست أفضل الطرق لمواجهة الوباء. المرضى في حاجة للعلاج، ويحتاج المشتبه بإصابتهم إلى إجراء الاختبارات بسرعة، ويحتاج الأصحاء إلى اللقاح، لكننا بدلا من فعل ذلك، نفرض عليهم حجرا منزليا وحظرا للتجول.
- تستغل إدارة ترامب والحكومات الأخرى حول العالم أزمة إنتشار الفيروس من أجل إنقاذ الشركات والنظام الرأسمالي، فيتحرك وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين لإلغاء القواعد المالية التي تم إدخالها بعد الانهيار المالي الأخير في عام 2010 ، وتعلن الصين أنها ستتخفف من التزاماتها البيئية من أجل تحفيز الاقتصاد، الأمر الذي من شأنه أن يمثل تراجعا عن المكسب الوحيد الذي تحقق حتى الآن وهو خفض تلوث الهواء. وعلى الرغم من ادعاءات المرشح الديموقراطي “جو بايدن” خلال مناظرته الأخيرة مع بيرني ساندرز، بأن الوباء لا علاقة له بحملة الرعاية الصحية للجميع التي يتبناها منافسه بيرني ساندرز، أصبحنا ندرك جميعا أن عدم وجود شبكة للرعاية الصحية وإطلاق يد الشركات في إنتاج وتداول وأسعار اللقاحات يؤدي إلى تفاقم الأزمة.
- كشفت أزمة انتشار وباء كورونا عن مدى ضعفنا كمواطنين، ومدى قوة الشركات وسيطرتها على الأسواق والحكومات والمنظمات الدولية، وعن ضعف وهشاشة وتدهور سمعة الحكومات الوطنية التى تحولت إلى مجرد سمسار للشركات، يموت الآلاف في الصين وإيطاليا وإيران وغيرها من الدول، ونشاهد يوميا كوارث مؤلمة في شتى البلدان، ورغم ذلك، يبدو لي أن فيروس كورونا ليس هو الخطر الاكبر الذي يواجه البشرية، وأن نهاية العالم ليست غدا. الخطر الحقيقي هو هذا النظام القاتل، الذي يحرم الملايين من الغذاء والمياه والرعاية الصحية، هذا النظام الذي أنتج ويواجه فيروس كورونا، وسينتج غيره من الفيروسات وسيواجهها بنفس الطريقة. شركات الدواء تربح من أمراضنا، وكلما انتشرت الأمراض وزادت حدتها، ارتفعت أسعار أسهم هذه الشركات وزادت أباحها. نحن في مواجهة مباشرة مع الوحش الرأسمالي!
د. عبدالهادي محمد عبدالهادي