د. زهدي الشامي يكتب: ٢٣ يوليو بين الانحيازات الأيدولوجية المبسطة والانجازات والتناقضات الحقيقية
تخطو تجربة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ فى مصر عاما جديدا فى مسيرتها التى بدأت منذ واحد وسبعين عاما ، إلا أنها كما ترون جميعا مازالت محل صراع فكري وأيدولوجي شديد بين مختلف الاتجاهات الفكرية في مصر وشركائها العالميين.
ولا أكتمكم سرًا إذا قلت إنه لهذا السبب انتابني قدر من الحيرة في كتابة هذا المقال. فكل من يكتب في هذا الموضوع التاريخي الهام لابد أن تصيبه سهام النقد من كل حدب وصوب. وفي النهاية ارتاح ضميري، خاصة وأنا في هذه المرحلة من السن والتجربة، لأن أبدى رأيي بتحرر وصراحة، راجيًا أن يكون فيها ما قد يفيد في مراجعة الماضي من أجل المستقبل.
أولا- نقد الاكليشيهات الأيدولوجية المبسطة
بدلا من الانحيازات الأيدولوجية المشوهة والساذجة، ما أحوجنا لإمعان التحليل والنقد الموضوعي الشامل لتجربة ٢٣ يوليو التي مازالت تعد أهم مراحل تاريخنا المعاصر، ولا تمثل فقط الماضي بل أنها مازالت كامنة حتى في الحاضر.
وأقصد بالخيارات المشوهة والمبسطة تلك الأكليشيهات التي تحاول إما التهجم على ثورة ٢٣ يوليو، وهي شائعة للغاية اليوم، أو حتى الانتصار لها بالتغافل عن القراءة النقدية الواعية للتجربة بايجابياتها وسلبياتها.
وفي الواقع فإن الأغاني الشهيرة هي مجرد “تزويق” لواقع مختلف سواء للنظام الملكي القديم أو لنظام ٢٣ يوليو نفسه. وأغنية محمد عبد الوهاب ” محلاها عيشة الفلاح” كانت مجرد كلمات معسولة رومانسية تغطي بؤسًا شديدًا يصعب على المصريين اليوم تصوره. كما أن كلمات عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين “تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا” كانت نوعا من الأحلام التي استفاق منها صلاح جاهين عقب النكسة على اكتئاب لازمه لسنوات.
ولا يغيب عن فطنتكم أن كثيرًا مما يتردد حتى كاد أن يسمم الوعي العام بمجمله إنما هي عبارات شديدة السذاجة تهاجم كل شئ في ٢٣ يوليو، بما في ذلك أهم انجازاتها التاريخية، وهي طريقة لابد أن تثير الدهشة والسخرية أيضًا.
نسمع يوميًا من تلك المصادر المختلفة ما يعايرها بأنها مجرد انقلاب عسكري وهي معايرة يرددها كل من الإخوان والليبراليون، رغم حقيقة تعاون كثيرين ممن يصفونها بذلك معها لفترة غير قصيرة في البداية، وتأييدهم لها وعلى رأسهم الإخوان.
من المدهش تناول هذه المجموعات والاتجاهات، وحتى المسلسلات التي ينتجونها اليوم، للعهد الملكي على أنه كان جنة الله على الأرض، متجاهلين تماما ما شهدناه بأعيننا جميعا نحن الجيل الأكبر سنا، وما أكدته كل الدراسات المصرية والأجنبية علمية كانت أم أدبية من وقائع الفقر والبؤس العام والمرض والظلم الاجتماعي المستشري في مصر حتى الثلاثينات والأربعينيات. شهادات تمتد حتى لما يشاع عن ديموقراطية العهد الملكي التي كانت أكذوبة كبيرة لحكم أحزاب الأقلية الموالية للقصر معظم السنوات -حكم الوفد حزب الأغلبية في ذلك العهد لفترات متقطعة لم تزد عن ١١ سنة- بفعل آلية التزوير الحكومي القديمة قدم تاريخ الانتخابات المصرية ووثقها ضمن من وثقوا توفيق الحكيم في كتابه الشهير يوميات نائب في الأرياف.
نسمع عن واحد من أهم قراراتها التاريخية وهو تأميم قناة السويس أنه لم تكن له ضرورة وأنه كان من الأفضل انتظار انتهاء امتياز شركة قناة السويس، وهو قول بالغ السذاجة، وقد أكدت سذاجته الوثائق التي أفرجت عنها الحكومة البريطانية ونشرتها بى بى سى في الأول من أبريل الماضي وتؤكد صراحة صواب قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، حيث أن الغرب لم تكن لديه أي نية لتسليم القناة إلى السيادة المصرية حتى بعد انتهاء فترة الامتياز.
حتى السد العالى الذي هو أبرز المشروعات القومية لناصر لم يسلم من هجمات ضارية عليه بحجج شديدة السذاجة مثل أنه أضر بالسردين النيلي، وبلغ أمر تلك الحملة الضارية أن رد الأستاذ فيليب جلاب على ذلك بكتاب شهير عنوانه “هل نهدم السد العالي”.
هل يعقل أن يتناول البعض التاريخ بهذه السذاجة وبهذا القدر من التشويه ؟
ثانيا – ٢٣ يوليو في التاريخ المصري والعالم
مما لاشك فيه أن ثورة ٢٣ يوليو هي جزء من موجة تحرر عالمية كبرى مناهضة للاستعمار وساعية إلى إجراء تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة في بلادها، شاركت فيها بلدان كثيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكان مؤتمر باندونح الشهير هو المعبر عنها وعن طموحها في التحرر والتنمية والتغيير الاجتماعي والإصلاحات الزراعية والتصنيع وخلافه وعرفت بـ “روح باندونج”. وكان ناصر أحد زعماء تلك الحركة العالمية جنبا إلى جنب مع شواين لاى ونهرو وسوكارنو وغيرهم.
ومصريا فإن كل ما أشرنا إليه سابقا كان من إنجازات ٢٣ يوليو، من تحقيق الجلاء ومناصرة حركات التحرر العربية والإفريقية، وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي. وقد أحدثت الثورة تحولات اجتماعية لا يمكن إنكارها تمثلت في الإصلاح الزراعي الذي قلل بدرجة معقولة من التفاوت الاجتماعي في الريف وأن كان لم يقض عليه، وتعميم مجانية التعليم والعلاج، وتحسين الحد الأدنى للأجور وخلافه. وعموما زاد نصيب الأجور من الناتج المحلي الإجمالي من ٣٨ % في عام ١٩٥٠ إلى ٥٠ % في عام ١٩٦٧، وهي زيادة ملموسة. وللأسف فقد اتجه للانخفاض منذ سنوات الانفتاح.
وفي مجال التنمية الاقتصادية شهدت البلاد تحسنا كبيرا، رغم عديد التناقضات والنواقص التي سنعود لها. وقد كان معدل التنمية مرتفعا في النصف الأول للستينات وصل إلى ٧.٥ في المائة وهو من المعدلات العالمية المرتفعة . والأكثر أهمية أن الصناعة كانت هي قاطرة التنمية ووصل معدل النمو فيها إلى ٨.٥ في المائة، وهو معدل لم نستطع الوصول له بعد ذلك أبدا.
ثالثا – تناقضات سياسات ٢٣ يوليو وأخطائها وتشوهاتها
أي تناول موضوعي لنظام ٢٣ يوليو في مصر ينبغي أن يمتد مع ذلك للتقييم والنقد الموضوعي للتناقضات والأخطاء والتشوهات.
وابتداء بالأداء الاقتصادي ينبغي أن نسجل عديد الملاحظات، جنبا إلى جنب ما أشرنا إليه من إنجازات.
وفي المقدمة ينبغي أن نشير لفلسفة تمويل التنمية، وقد عبرت عنها بدرجة ما ماسماه ميثاق العمل الوطنى لعام ١٩٦٢ ب ” المعادلة الصعبة ” . وجوهر المعادلة المذكورة كيف يمكن أن نزيد الانتاج وفى نفس الوقت نزيد الاستهلاك والادخار . وارتبط بذلك الفكرة الأخرى القائلة ” عدم التضحية بالأجيال الحالية من أجل أجيال لم تأت بعد ” ، فى إشارة واضحة لنقد النموذج السوفيتي والصينى للتنمية .
وهذه أفكار محتاجة لاثبات صحتها ، وقد تعذر ذلك عمليا ، وكانت فى الواقع مرتبطة بقدر واضح من التعويل على تمويل خارجى بدلا من بذل جهد أكبر لتعبئة الموارد المحلية والتراكم الداخلى . صحيح أن هذا الاعتماد على مصادر خارجية لم يصل إلى نفس الدرجة التى وصل لها فيما بعد عقب سياسات الانفتاح ، ولكنه كان رغم ذلك مرتفعا بدرجة ملحوظة ، ووصل فى بداية الستينيات لحوالى٣٠ فى المائة من الاستثمارات المنفذة . وقد تجلى ذلك فى تزايد عجز المعاملات الخارجية وخاصة ميزان العمليات الجارية من ٢٣.٦ مليون جنيه عام ١٩٦٠ إلى ١١٠ مليون جنيه عام ١٩٦٥ .
وقد ترافق مع ذلك بالضرورة قدر من التوسع فى تمويل الموازنة بالعجز مما أدى لظهور ضغوط تضخمية وارتفاع الرقم القياسي للأسعار من ٣٤٣ عام ١٩٥٢ إلى ٥٥٨ عام ١٩٧٢ ( سنة الاساس ١٩٣٨ = ١٠٠ ) .
ونتيجة لذلك فقد تأزم الوضع الاقتصادى وتم تأجيل تنفيذ الخطة الخمسية الثانية التى كان من المفترض أن تنفذ فى الأعوام ١٩٦٥ – ١٩٧٠ ، ولم تدخل ابدا حيز التنفيذ . وهكذا فالذى نفذ من الخطط الخمسية كانت فقط الخطة الخمسية الأولى ١٩٦٠- ١٩٦٥ .
واقترانا بذلك فقد تأثرت عمليا خطة التصنيع ، وتاجل تعميق التصنيع الثقيل وتعميق صناعة الآلات والمعدات التى هى اساس التنمية الحقيقية . وبالتالى ظلت الصناعة المصرية متوجهه بدرجة أكبر إلى الصناعات الخفيفة والاستهلاكية فى إطار مانعرفه بانه نموذج التصنيع ب ” احلال الواردات ” فلا هى شابهت النموذج السوفيتي والاشتراكى الذى أعطى الاولوية والاسبقية لنمو قطاع الصناعة الثقيلة وصناعة الآلات والمعدات ( مايسمى الفرع أ) ولاشابه التصنيع فى أمريكا اللاتينية الذى بدأ بإحلال الواردات ولكنه بدرجة أو أخرى طور نفسه بعد فترة نحو التصدير ايضا . واكتملت المأساة بعد اتباع السياسات الانفتاحية بتفكيك الصناعة وتصفيتها وفق المخططات التى نعرفها جميعا .
من الضروري أن نشير ولو بسرعة لتشوهات مهمة واخفاقات كلفتنا الكثير واقصد بذلك التشوه البيروقراكى فى الدولة الذى اساء للدينوقراكية ، وهو تشوه اعترف به جمال عبد الناصر بعد مظاهرات ١٩٦٧ و١٩٦٨ ، وحدث حراك لمعالجته بعد بيان ٣٠ مارس ، ولكن المشكلة ظلت قائمة ولنم يجر حلها من جذورها . والاخفاق الكبير الثانى هوالإدارة السيئة لأزمة ١٩٦٧ مما أدى للنكسة الشهيرة التى الحقت بنا ضررا جسيما اعتقد مازلنا نعانى من آثاره حتى اليوم.
رابعًا – بدلا من الخاتمة: حول الحكم العسكري
من المهم أن نعود في النهاية للقضية التي أثرناها في البداية، والتي هي التوصيفات المبسطة والساذجة للوضع السياسي. فمن الشائع تماما اليوم أن تسمع وصف الحكم العسكري بطريقة توحد وتجمع بين أشكال هذا الحكم في كل بلاد العالم، وبين كل مراحل الحكم السلطوي في التاريخ المصري المعاصر. ووقع في هذا الفخ في الغالب خصوم ٢٣ يوليو. ويمكن بالعكس أن تشير أيضًا إلى أن فريقا كبيرًا من أنصارها يقعون أيضا في الخطأ بتأييدهم لكل من يرتدي الزي العسكرى وكأنه جمال عبد الناصر.
والحقيقة أن هذا اختزال خطير لاشكالية علاقة الجيوش بالسياسة.
فانقلابات أمريكا اللاتينية الشهيرة وعلى رأسها انقلاب البرازيل عامة ١٩٦٤ وانقلاب بونيشيه فى شيلى فى السبعينات وغيرها هى انقلابات حدثت ضد سلطات شعبية لها سياسات اعتبرتها أمريكا معادية لها ، حكومة جولارت فى البرازيل وسلفادور الليندى فى شيلى . فهذه انقلابات جنرالات دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الحكومات الشعبية التى اطاحت بالنخب الاوليجاركية القديمة المرتبطة بالأسواق العالمية . ( جرى عرض ذلك فى كتابنا ” دراما أمريكا اللاتينية ” ) .
أما في مصر، وفي الشرق الأوسط عموما، فقد كانت حركات الضباط مختلفة للغاية، وهى كما تعرف حركات عقداء،( كولونيلات ) وليس جنرالات . وهي أطاحت بالأرستقراطيات القديمة من أسر ملكية وكبار الملاك ورأسماليين كومبرادوريين مرتبطين بالسوق العالمية.
لا يعني هذا بالطبع أي دعوة لاستمرار بقاء تلك النظم الشرق أوسطية، فهي في النهاية تظل مرحلة انتقالية لابد من انتهائها، واستمرار بقاء بعض ممثليها لابد أن ينتهى بتدهور خطير لأن البيروقراطية المهيمنة بأجنحتها مدنية أو عسكرية تحدث بها تطورات كبيرة في اتجاه الاستحواذ على مقدرات البلاد وتغيير وجه ما كان مشروعا وطنيا بتحالفات مع الرأسمالية العالمية وممثليها من منظمات دولية وحكومات أجنبية، ولذلك في كل الأحوال يجب أن ندرك أن تلك النظم “السلطوية البيروقراطية” تتغير طبيعتها وسياساتها من النقيض للنقيض، ولذلك ففي جميع الأحوال لا أعتقد أنه من المنطقي أن يتحدث البعض عن سبعين عاما أعقبت حكم٢٣ يوليو فى مصر على أنها نظام واحد وفترة واحدة.