د. زهدي الشامي يكتب: المشروع القومي الحقيقي.. عاصمة إدارية أم مشروع قومي للري والزراعة
تحدثوا عن استصلاح ٤ مليون فدان ثم خفضوها لـ ١.٥ مليون وفشلو أيضا في تحقيق هذا الرقم.. وكل ماتم استصلاحه نصف مليون فدان
نصف ما أنفق على العاصمة الإدارية كان يكفي لاستصلاح ٣.٧٥ مليون فدان.. ومشروع تبطين الترع فاشل وتم إيقافه بقرار من الوزير الجديد
مشروعات معالجة مياه الصرف وتحلية مياه البحر تتكلف مئات المليارات ولا يمكنها أن تعوض أكثر من ٢٠% مما ستفقده مصر من مياه النيل
أولويات التنمية والإنفاق الحكومي هي الموضوع الذي يستأثر باهتمام المصريين بفضل ما يلاحظه الجميع من اختلال واضح للغاية في هذا المجال، معالمه عديدة، ولكن من أبرزها ما يسمى العاصمة الإدارية الجديدة وأخواتها من علمين جديدة وقطارات متنوعة.
للأسف الشديد حاول الحكم في مصر الترويج لمثل تلك المشروعات العبثية التي لا يستفيد منها سوى قلة من المحاسيب، على أنها مشروعات قومية، في حين أنها لا تمت لكلمة قومية في شئ.
في الماضي كان المشروع القومي هو مشروع كالسد العالي، وهو بالفعل مشروع قومي ملهم، لأنه مشروع ينهض بمختلف مجالات الاقتصاد المصري من زراعة وطاقة وصناعة، نفس ما تفعله إثيوبيا اليوم بما تسميه سد النهضة الإثيوبي العظيم، والذي هو المضاد الموضوعي لسدنا العالي والذي يخشى بشدة أن يحيد تأثير سدنا العريق.
وفي ظل تلك الظروف المعلومة للكافة، هل كان من الرشد أن تتبنى السلطة الحاكمة كهدف قومي تلك المشروعات الترفية العقارية التبديدية كالعاصمة الجديدة، أم بالعكس تجعل من المياه والزراعة مشروع مصر القومي الأول، مواجهة للمخاطر المحدقة بالنيل وتطويرا لأنظمة حديثة للترشيد المائي والتوسع الزراعي؟
من المؤسف أن الاختيار كان بالفعل للعاصمة الإدارية وأشباهها وبالدعاية الجوفاء للزراعة والري.
أنفقت الدولة على مشروعات العاصمة وأخواتها ما يقرب من ١.٥ تريليون جنيه، في حين كانت مخصصات الزراعة سنويا ما بين ٤٠ إلى ٨٠ مليار جنيه فقط.
وتم الإعلان عن خطط وهمية لاستصلاح ٤ ملايين فدان، فشلوا في تحقيقها، فخفضوا الرقم إلى ١.٥ مليون فقط، وفشلوا أيضا في تحقيقه. فوفق بيانات وزارة الزراعة فإن المساحة المزروعة في عام ٢٠٢٠ وصلت إلى ٩.٤ مليون فدان في مقابل ٨.٩ مليون عام ٢٠١٤، أي كل ماتم استصلاح في تلك السنوات ٥٠٠ ألف فدان فقط، وبمعدل يقل عن ١٠٠ ألف فدان في العام.
ويسألنى البعض ماذا لو وجهت نصف الأموال التي أنفقت على العاصمة وأخواتها على للزراعة، كم فدانا كان يمكن استصلاحها؟ والإجابة واضحة. نصف تلك المبالغ تعني حوالى ٧٥٠ مليار وبافتراض أن تكلفة استصلاح الفدان تصل حتى إلى ٢٠٠ ألف جنيه، كان بالإمكان استصلاح ٣.٧٥ مليون فدان بتلك المبالغ.
غير أن المشكلة ليست فقط مشكلة زراعة، بل قبلها مشكلة مياه. ومن المؤسف أن وزراء الحكومة المصرية ببرروا وهللوا للخطة الدعائية الأولى لاستصلاح ٤ مليون فدان رغم عدم توفر المياه ، بالزعم كذبا أن عندنا خزان للمياه الجوفية المتجددة يكفى لرى تلك المساحة الكبيرة. وبالطبع كانت إثيوبيا تتلقف تلك التصريحات التبريرية الكاذبة للبرهنة على صحة موقفها فى سد النهضة وأن مصر ليست عندها مشكلة فى المياه، خلافا لحقيقة أن مصر دخلت بالفعل مرحلة الفقر المائى حيث بلغ نصيب المواطن ٥٦٠ مترا فقط سنويا وهو حوالى نصف حد الفقر المائى العالمى الذى يصل إلى ١٠٠ متر مكعب ، وأن مصر تعتمد بنسبة ٩٧ % على مياه النيل .
لهذا كان المفروض أن تكون قضية المياه ومنذ البداية هى القضية القومية الأولى فى مصر ، وللاسف هذا لم يحدث . ويتضمن هذا قبل اى شئ الدفاع المبكر عن حصة مصر التاريخية فى مياه النيل ، وهى حصة لا يمكن لأى جهود أو استثمارات أخرى أن تعوض فقدها باى حال من الأحوال . ولكن للأسف تأخر الحكم فى مصر وتراخى كثيرا فى هذا الملف ، حتى وصلنا لما نشاهده اليوم من فشل كبير ، وفرض إثيوبيا أمرا واقعا بدون اى اتفاق أو التزام مع مصر ، بما يهدد بتقليص حصة مصر السنوية البالغة ٥٥ مليار متر بمقدار ٢٠ مليار على الأقل وتلك كارثة كبيرة.
كل المشروعات الأخرى فى مجال المياه كان ينبغى البدء بها مبكرا ومنذ العام الأول ، تعاونا مع دول النيل فى تطوير المنابع ، وتطويرا لنظم الرى وتعظيما للاستفادة من المياه وخلافه ، وكل هذا كما أسلفنا مهم جدا ولكنه عامل مساعد فقط بالمقارنة بالحفاظ على حقوقنا فى مياه النيل.
يجب أن نعرف أن تلك المشروعات مكلفة جدا ، وأن حصيلتها محدودة بالمقارنة بمياه النيل . ووفقا لأرقام منشورة على لسان مسؤولين فى الإسكان والرى ، فإن خطط تحلية المياه ، و التى هى فى الواقع خططا لمياه الشرب لا الزراعة تستهدف أرقاما بملايين وليس مليارات الأمتار ، وهى تفيد أن المستهدف فى مجال التحلية حتى عام ٢٠٥٠ يصل إلى ٦.٤ مليون متر مكعب فى اليوم . اى حوالى ٢مليار متر فقط سنويا . والمتوقع لمشروعات معالجة المياه يدور حول نفس الرقم ٦ مليون متر مكعب يوميا . اى أن تلك المشروعات المكلفة للغاية بما يصل لمئات المليارات من الجنيهات ،لن تغطى سوى نسبة لا تزيد عن ٢٠% مما يمكن أن نفقده من مياه النيل التى كنا نحصل عليها مجانا.
يتبقى أن أقول أنه من المؤسف جدا أنه بينما تأخرنا فى كل ذلك ، واهدرنا الأموال على مالاينبغى أن نوجهها له ، فعندما قررت الحكومة إطلاق مشروع لترشيد استخدام المياه ، والذى سموه مشروع تبطين الترع ، كان بدوره هو المشروع الخطأ نتيجة لغياب الدراسات الجادة ، وبعد أن رصدت له فى عهد الوزير السابق مبلغ ٧٠ مليار جنيه لتبطين ٢٠ ألف كيلو من الترع ، تبين أن هذا الأسلوب خاطئ فنيا لأنه تم بشكل غير مدروس وتعميم استخدام الأسمنت، وبعد أن تم تبطين حوالي ٦ آلاف كيلومتر، أعلنت الوزارة في عهد الوزير الحالي عن وقفه لإعادة الدراسة، بعد أن تبينت اخطاؤه الفنية الجسيمة.
الواقع مؤلم، والفهلوة والدعايات الجوفاء لا تجدي، ولابد من إعادة الاعتبار للدراسة الاقتصادية والفنية بمفهومها الصحيح وبشفافية وعلنية ومشاركة شعبية حقيقية.