د. حنان طنطاوي تكتب: أبانا الذي في الضوء (2-2).. أعيدوا لها واحد على الأقل
(تدوينة عن انطفاء الحُرقة، واشتعال الضوء؛ في لحظة تناول فيها محمد أبو الغيط وأحمد خالد توفيق كنافة محشية بالبسبوسة)
لازال محمد أبو الغيط قادرًا –رغم التفاصيل ورصده لتطور المرض- على تخطي ألمه، وتقمص ألم زوجته وحبيبته؛ وهو يناشد الجميع في منشوره الذي كتبه يوم 8 يوليو 2022:
( أرجو منكم جميعاً، بحق من كان لي عنده لحظة ود، أن يساعدنا في ألا تُفجع إسراء في زوجها ووالدها ووالدتها (توفيت قبل عامين بالسرطان أيضا).
أماكن كثيرة خالية على مائدة عيدها، فليعد لها واحد على الأقل).
لا زال بإمكاننا –رغم تفاصيل التجارب العلاجية، المحفزة والمحبطة- سماع محمد أبو الغيط وهو يترنم بأغنية “شاي بلبن”التي كتبها لنا وهو يتحدّث عن إسرائه وعن حبهما وتوحدهما، فيقول:
(أربع إیدین، أربع شفایف على الفطار، وشاى بلبن
أربع إیدین، وأربع شفایف على الفطار
یبوسوا بعض ویحضنوا نور النهار
بین صدرها وصدره وبین البسمتین
بیحضنوا الحب اللى جامعهم سوا على الفطار
ویحضنوا الشمس اللى بتهز الستار
وتخش من بین الخیوط وبعضها مع الهوا
في الأوضة ترسم نفسها على أرضها
على البساط اللى اشتروه مع الجهاز
على الغرام اللى اشتروه
من غیر تمن، وع الإزاز
ویشربوا الشاى باللبن فى فنجانين
بیصحو ا قلبى كل لیلة فى المنام
وبیكتبوا بلون منور فزدقى
على الهوا الأسود وع الجفن اللى نام
بیكتبوا بلون منور فزدقى كلمة: سلام
من أغنية شاي بلبن – كلمات الشاعر صلاح جاهين – غناء يسرا الهواري (والتي كانت سابقا عضوة بفرقة الطمي)
اعتبرناها إسراء وأنا الأغنية المعبرة عن حياتنا ولطالما تشاركنا غنائها.)
لا أقصد المقارنة بين كتابة حسين البرغوثي ومحمد أبو الغيط، ولا أملك أساسًا ما يؤهلني لذلك. أنا فقط أستكمل بحثي عن إجابة؛ أين هي اللمسة المعجزة المُستحَقة؟ أين السبيل لكي تقل الحُرقة في بكائي؟!
فأتذكر: أن محمد أبوالغيط الذي يشرح تداعيات المرض ومضاعافاته -بتفاصيل قد يأنف غيره عن كتابتها- تحمّل بجسارة؛ برودة الكشف، وكل ما يشيعه في صورتنا من وهن. تخلى عن فقاعة التكتم وسترها الكاذب. صحيح أنه لم يفقد ولا لحظة دقته أوموضوعيته في تحليل المعلومات والاحتمالات، لكنه لم يفقد معها أيضا سعيه المتواصل وتمسكه بكل أمل وفرصة ممكنة –بل وطلب الدعاء له بمعجزة الشفاء- حتى آخر لحظة!
المعجزة! .. ربما كانت هذه هي المعجزة، يتمم أبو الغيط المهمة، يسلّم الفصل الأخير من كتابه ملبيا نداء الضوء، غارسًا ذرته اللامعة لتنشطر فينا صيحته: (محمد أبو الغيط مرّ من هنا)…
لا أقرأ فعل المرور الآن بمعناه الدال على التأقيت والانتهاء، بل أقرأ ما فيه من عبور، واجتياز، وتجاوز. وكأنه انتهى من هنا، ولم ينته هنا منه!
مر أبو الغيط من هنا؛ بعد أن نازل الألم، وأنهكه، وكشف لثامه، وهشّم درعه، وهدّم حصنه، فانتصر لضعفه وتأوهاته، بشرحها، وتمحيصها، وبتدوين قوة حبيبته وسندها، فكان الخارق يؤرخ لخارقة!
يقول عن إسرائه المضيئة: (عبر سنوات علاقتنا انبعثت إسراء أخرى، إسراء ذات جوهر أصلب وأقوى. بتلات وردة بيضاء رقيقة حقا لكنها ليست هشة، بل تزداد تماسكا كلما تعمقت بطبقاتها. بلورات بالغة الشفافية حقا، لكنها لا تنكسر أبداً، بل تنافس أغلظ ألواح الزجاج المضاد للرصاص!).
إذا كان الألم قد استباح جسد محمد أبو الغيط، فقد ردها له كاتبنا الصاع صاعين؛ عندما كتب عنه بدقة الاستقصائي ورقة الأديب. إذا كان الألم قد جَرّأ عليه مشارط الجراحين، فقد شرّحه أبو الغيط بسن قلمه. حاكم أبو الغيط الألم في محكمة عادلة، لم ينكر عليه حق الدفاع، والبحث عن معناه، ولم يقصّر في الادعاء عليه بتساؤلاته وتأملاته. نظر في وجهه القاسي، ونقل لنا ملامحه بصدق ورحمة، نقلها وهو يعلمنا معاني الصمود، والمقاومة، والحب، والشراكة. معاني الانتصار للحق، للأمل في القدرة على التغيير، حتى لو كان التغيير الممكن -وليس الواحب- يظل بإمكانه جعل حياتنا أسهل وأهدأ. يعلمنا معانى التراحم والتعاطف مع آلام الآخرين، دون تفريط في موضوعيتنا ومبادئنا. سجّل محمد أبو الغيط شهادته، وهو يعلمنا قيمة كل يوم طبيعي في حياتنا؛ نحياه بصحة مع من نحب. نقله وهو يذكرنا بأنه؛ (لا يوجد ما قبل الله، لأنه هو الأول بلا بداية و هو الآخر بلا نهاية)..
يحملنا أبو الغيط معه في ذكرياته وأسفاره، ويشاركنا الشهيق في ظل أبنائه الخضر، ثم يسكننا أجمل بيت من الشّعر؛ يحجزه لنا دومًا بين سطور كتاباته!
يكتب لأصدقائه وقرائه ومحبيه -ضمن تدوينته الأخيرة- ويخبرهم كيف لم يتقبل -فورًا- توقعات الأطباء بقرب النهاية: (شعرت بضيق تنفس، وبداية تصاعد خفقات قلبي، وأنا أستوعب معنى كلامه. كأنهم يزفون لي خبر رحيلي للمرة الثانية خلال أسبوعين.
نسيت النقاط التي كنت اتفقت مع إسراء أن نسأله عنها، وارتبكت فعجزت عن الوصول للملف الذي سجلتها به على هاتفي، فقط نظرت إلى إسراء دامعاً متسائلا، فوجدتها متماسكة، وواصلت الحديث معه عن تفاصيل الأيام القادمة.)
ثم يردف في مقطع لاحق:
(كلانا نأمل في يقين أمي وإن كنا لا نجده. كما شرحت سالفاً فالمعجزة تظل أمراً بالغ الندرة، وحتى الأديان لم تعد المؤمنين بالضرورة بالنصر والشفاء في الدنيا، بل يخاطب القرآن الصحابة بوعدٍ مختلف تماما: “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع”. كون أن أمي يمكنها جمع ذلك مع تأكدها من حدوث المعجزة لي تحديداً بآلية “الدعاء اليقيني”، فهي قدرات أحب أن أتخيلها، أحاولها، لكني أبعد ما أكون عنها.)
وكأنه يقول لنا أتفهم الجزع الذي قد يخالجكم، لأني شعرت بمثله، ثم يحاول التسرية عن نفسه وعنا؛ وهو يتأمل معنى النصر، الذي قد يتحقق في جزء جديد لاحق، ولا ينبغي أن يكون -دوما- قريبًا، ودانيا في الدنيا، ثم ها هو يؤكد على زمرته التي اختارها: المؤمنين.
تتطاير الآن صورًأ في مخيلتي من فيلم “سويت نوفمبر” الذي كانت تحتضر بطلته في شهر نوفمبر بسبب السرطان أيضًا، وتقرر وهي تقضي أيامها الأخيرة أن تستضيف البطل التائه في بيتها، علّه يفهم الحياة ويثمنها. ربما كان اختزالا كبيرًا، وفيه حتى شيء من الابتذال؛ أن أحاول الربط بين قصة سينمائية، وملحمة حقيقية. لكني أغامر هنا بذكرها، لأسجل أني شعرت بمحمد أبو الغيط يستضيفنا جميعا في بيته؛ في قلبه، ويهدينا بين سطوره الدليل. في خيال المؤلف: هربت بطلة الفيلم من حبيبها في آخر أيامها، كي لا يراها في ضعفها ويظل يتذكرها في أحلى حالاتها. لكن حقيقة بطلنا محمد أبو الغيط منّت علينا بمشاركة ضعفه، ولحظاته الأخيرة، ومن فرط ما مسّنا من وهج إبداعه واتقاد معانيه؛ كدنا ننسى أنه يقول لنا ويكرر، أن الورم ينتشر، ووظائف الجسم تنهار رويدًا رويًدا! وكأنه كلما كشف عن تداعيه، تتجلى لنا قوته. نعم، ربما كانت هذه هي المعجزة.
فديت العِظام الثايرة ع المخابئ..
تحكي عن عِظام…فيهم سر بارئ
يوَصّف المُعافى ويرادف الخالق
عِظام وبارزين ف عيونّا أشهاد
ع اللحم الل حارِق.. نسيجه وجع
ع الصامد المناضل.. إلل مِنّه اتبدَع
وطن وقايم.. بعظام الجدع
محاوطاه بتحميه.. كما الأكباد
غنوتيعنمعجزة.
هناك أيضًا معجزته الحقيقية “يحيى محمد أبو الغيط ” عندما كتب عنه وله يقول:
(كم أبهرتني يا بني منذ سنواتك الأولى.
في لحظة ما من عامك الثاني انفجرت داخلي مشاعر الأبوة نحوك بلا حدود. أنبهر وأنا أرى معجزة تكوني تتكرر. هناك “محمد” آخر صغير أراه لكنه ليس أنا بالضبط، بل هو.)
ثم يكمل مخاطبًا يحيى، مراهنًا على إنصات الجميع:
( ابني الحبيب..
أنا أصدق أن جدتك اطمئنت على إسراء في صورة ذلك الطائر يومها.
وأنا أيضا لو غبت عنك يا بني بعد عشرين يوما أو شهراً أو عشرين عاماً فثق أني سأكون في مكان ما أنظر إليك. لعلي في نسمة هواء أو تراكم قطرات الندى، أو في أصغر وردة بيضاء تذكرني بأمك.)
لازلت أبكي لكن الحرقة أقل، دعوت الله مبتهلة أن يسامحني على غضبي، ويريني إشارة تهوّن علي وتطمئن قلبي.
ها هي: قاعة تكريم كبيرة محتشدة بجمهور واقف لا يكف عن التصفيق الحار، يقف محمد أبو الغيط فيها مرتديًا حُلة فاخرة زرقاء -بدون ربطة عنق- وجهه مشرق ومعافى، ظهره لكراسي القاعة، ووجهه لدكتور أحمد خالد توفيق، يسلمان على بعضهما بحرارة، ويقول له د.أحمد مبتسمًا: أبدعت يا صديقي. ثم جلس كلاهما على المنصة، وقبل أن يقولا أي شيئ، شرعا في الأكل من أطباق حلوى أمامهما، وتبينت أنها كنافة بالبسبوسة! كان كل من في القاعة يضحكون بصوت مرتفع ومعهم محمد أبو الغيط.
أعرف أن حلمًا كهذا له العديد من التفسيرات المنطقية، كأن يكون انعكاسًا لما قرأته على صفحات أصدقائه -في رثائه- وهم يوصونه بالسلام على دكتور أحمد. أو ما قرأته على صفحة محمد أبو الغيط نفسه عن دكتور أحمد خالد توفيق وعنونه ب:”أبانا الذي من طنطا”. ربما أكون متأثرة بمشهد تكريمه الأخير الذي انتفض فيه كل الصحفيون يحيون محمد أبو الغيط بحرارة، بعد أن أذيعت كلمته التي قال فيها:
(صحيح أن مشاكل الصحافة الأولى، هي عوامل خارج شخص الصحفي الفرد، لكن حديثي هنا عن ما بيدنا؛ فليس مطلوبًا من كل مواطن أن يكون بطلًا أو أن يكون الأنجح عالميًا بمجال تخصصه، بل مطلوب فقط أن يكون إنسانًا راضيًا عن مواقفه، وعن موافقة ما يقدمه لضميره، ولا يغير ذلك بالطبع من أولوية تأثيرات رأس المال والقوانين والسياسات الحكومية، فالقاعدة هي: أنه لا تنهض الصحافة في أي بلد ولا يتقدم صحفيوها بغير حرية، كما لا تنهض النباتات الخضراء التي أزرعها في حديقتي بغير شمس. )
أعي كل ذلك، لكني أعي أيضًا أن من كانوا في القاعة لم يكونوا صحفيين وإعلاميين بالضرورة، بل أكاد أجزم أني لمحت بينهم الشهيد محمد عبد الحميد الشهير بين أصدقائه ب (كامبا) والذي استهل محمد أبو الغيط بصورته، صرخة أول تدوينة فجرت ضوءه :” الفقراء أولا…”
أعرف أيضًا أني عندما أردت سابقًا كتابة مقال عن أحمد خالد توفيق؛ لجأتُ للخيال، وأقمت معه حوارًا مقتضبًا. ولم أكن لأتمنى أن أُهدى بحلم كهذا!
ترددت في نشر الحلم، ثم تذكرتُ أن كابوس ابتلاع الأشواك -الذي رآه محمد أبو الغيط قبل تشخيص المرض، وكتب عنه وهو يعلن إصابته بالسرطان- أخذ فرصته في التألم والتأويل والتجسيد، فلم لا يكون لقضم الحلوى في الحلم، حقه في الاستبشار والتدوين والتحقيق.
أفقت من الحلم على صوت ضحكتي -كنت أضحك مع من في القاعة وأنا أصورهم- لم يتوقف انهمار دموعي، لكنها -الحمد لله- بلا حُرقة!
أدرك الآن: لامس القدر المعجزة؛ انتصر محمد أبو الغيط، أتم مهمة تدوين الألم وفك طلسمه. انتصرت إرادته أمام جبروت المرض ونهشه. انتصر محمد أبو الغيط؛ واستطاع أن يقهر الموت وهو يتقبله، غير مقبل عليه ولا هارب منه. وبينما يقبع جسده في مكان ضيق ومظلم في لندن، أو ربما كان مضيئًا دائمًا، لا أعلم، لكني أعرف أنه ترك لنا إرثًا لا ينضب من الغرس الذي يلامس فروعه السماء، وآلاف المقالات والعناوين والكتب التي ستكتب عنه، قابع في مكانه بينما يتحرك أثره القادر على إحداث التغيير الواجب، وليس فقط الممكن، القادر على إضاءة الحياة الحقيقية لنا!
أكمل الكتابة أملا في التعافي، ولا أوقن صدقًا إن كنت أكتب وحدي، أو أن طاقة ما تُملّي عليّ الكلام الآن! أضحك كلما تذكرت الحلم، وأتنفس كلما قرأت قول أبانا الذي في الضوء -محمد أبو الغيط- وهو يكتب لابنه يحيى ولنا: (في تلك المساحة أعرف أنه ستظل تلك الطاقة من حبي تحيط بك وبأمك سواء كنت أنظر إليكما بعيناي، أو أنظر إليكما بعيون كل ذلك الكون الفسيح الجميل.).