د. الطيب النقر يكتب: تطبيع البرهان
لعل سبب هذه الظلال الكثيفة لتلك الزيارة الخاطفة التي أجراها وزير خارجية الكيان المغتصب إيلي كوهين لعاصمة السودان قبل عدة أيام مردها هو خصوصية تلك العاصمة التي ترفض التطبيع أشد الرفض وأعنفه، فقد عرفت الخرطوم بتعصبها وجمودها على آراء الدول الغربية التي كانت تستهجن موقفها الثابت من التطبيع، كما عرفت تلك العاصمة التي احتضنت مؤتمر اللاءات الثلاثة في 29 أغسطس 1967م عقب الهزيمة النكراء التي تجرعها نظام الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والتي نادى فيها هذا المؤتمر بالمضي قدما في محاربة العدو الصهيوني حتى يعود الحق لأصحابه وتتحرر كل الأراضي العربية التي شمخ فيها البغيض بأنفه، فلا صلح زلا اعتراف ولا تفاوض، وبعد ما يدنو من الستة عقود على انعقاد هذا المؤتمر ما زالت الكثرة من الشعب السوداني تقف نفس موقفها السابق ولم تحيد عنه، ترقب رئيس مجلسها السيادي الذي لم توفضه أو تختاره وهو يسعى أن يضطرها إلى توطيد علاقات لم تكن مألوفة لها من قبل في غير نظام ولا اطراد، فالفريق أول البرهان يريد أن يدفع مناصرة شعبه للقضية الفلسطنية نحو الجمود والتحجر، يريد هذا الرجل أن يفحمنا بحصافته وعبقريته، وجبروت ذهنه، الذي فاق كل تقدير واعتبار، فالرجل يسعى أن ينال السودان الذكر الجميل المأثور، والثواب الجزيل الموفور، من قاطن البيت الأبيض وأشياعه في القارة العجوز، ونسي أن عترته خلقت لتقود لا لتقاد، وأن المصائب قد سلطت على شعبه من كل ناحية، وأخذت عليه كل سبيل من قبل، فلم يفكر لحظة في مصانعة عدوه ومواددته،ولم يشرئب قط لأننحيازه إليه، أو يهفو لمقدمه عليه، بل كان يقيم أوضح الأدلة وأقواها على مظاهر الصبر والاحتمال حتى هدأ واستقر، حينما كان يتحلى بايمانه لمجابهة كل عدو، ويتذرع بصبره لمقارعة كل نازلة.
إن حلم التطبيع الذي يراود أحفاد القردة والخنازير في تل أبيب، و الذين ورطوا ارئيس المجلس السيادي السوداني في إثارته، لن يكون يسيراً ولا ممكناً إلاعندما تتحد آمال الشعب ومشاعره مع وجهة نظر القائد، وهذا أمراً دونه خرط القتاد، فنحن تعلمنا معنى الكرامة من أسلافنا، وسنعلمها حتماً للأجيال التي تعقبنا لأنها ضرورة من ضرورات العيش الكريم، وقضية فلسطين ومعاناة شعبه حاضرة يقرؤها التلاميذ في كتب المطالعة، ويدرسونها فصولاً من الأدب، ويتعصبون لها كل اشتد الوغى أو ارتقى شهيد، إن مناصرة أحفاد المهدي ونمر والتعايشي ودينار، ودقنة وترهاقا وعرانين سنار، للقضية الفلسطنية عهدا لا تهتدي الأيام إلى فسخه، ولا ترتقي الليالي إلى نسخه، بل هو مؤثل ثابت يتجدد كلما تجدد الزمان، فحنانيك أيها الفريق، ولا تكلف نفسك الجهد العنيف، والإلحاح في السعي لمتصل في تحقيق الغايات التي يصعب الوصول إليها، إن قضية فلسطين العادلة أيها الزعيم ما زالت جموع الأسود لها محبة، وبها واثقة، وحولها ملتفة، والشعب برمته يدرك أنك تبتغي الحكم وتذوب حشاشة نفسك فيه، وأن الوسيلة التي تجعلك لا تنزل عن مناصب الحكم، هو التزلف للصهاينة حتى تشتد عنايتهم بك ويجعلونك تعطل القانون، وتئد الدستور، وتخيب رجاء الأمة فتعمل لكبوتها لا نهضتها كما يعمل حكامنا الأشاويس من الخليج إلى المحيط، وفي الحق إن عهدك أيها الزعيم المتهافت للتطبيع، انتهكت فيه الحرمات، واشتدت فيه الخطوب، وسفكت فيه الدماء، وعظم فيه البلاء، وانتشرت فيه الأخبار بقبيح ما أرتكب، وعظيم ما احتقب، وتعرض فيها وطنك لأِشنع الأخطار، وأنت هادئ مطمئن فلا ضمير يؤنبك حينما تخلو إليه، ولا برلمان عاصف يدفعك لأن تستقيل، ألست ترى أن الأمر قد بلغ من الهزل أقصاه؟ وإنتهى من السخف إلى غايته كما يقول الأديب الضرير، وأنت مستنداً إلى صولجان حكمك لا تتكلف مشقة، ولا تحمل ضراما، فلا عهداً وثقته، ولا بيان أحكمته، ولا تحالفاً وكدته سوى تحالفك مع أوغاد البشرية وطغمامها وأراذلها، وهو التحالف الذي دلفت إليه دلوف الجاهل بربه، الذاهل عن رشده، المركوس في غيه، المسوق إلى حتفه كما قال صاحب كتاب المختار هلال بن زهرون الصابي، إن حكومتك المتداعية أيها الحاكم الجائر مقيدة بأسخف القيود وأثقلها وهي قيود التبعية التي تقتضي مصادرة القرار، ومقارفة الدنايا وهو الأمر الذي لا يجد فيه كل الساسة الآن مشقة ولا غرم، خلا التيار الإسلامي العريض الذي يجد لذته في مناوشة الباطل، والتغلب على الأباطيل، وفضيلة الجهاد التي باتت خليقة راسخة فيه حتما ستدفعه لأن يبلغ بغيته في جهد متصل وسعي عسير، فهذا التيار كما يعلم الجميع لا يحرص إلا على إرضاء الدين والنهوض بحقه، وأن يحقق لشعبه أسباب الكرامة التي لا تحتاج إلى تعمق أو استقصاء وكفى.