د. الطيب النقر يكتب: السودان ومعضلة التداخل القبلي
لو في استطاعة الحكومة السودانية أن تستوعب كل القبائل المتاخمة لحدودها فمن الخير أن تفعل ذلك، فضلاً عن القبائل التي استوطنت السودان منذ أمد بعيد كقبيلة “البني عامر” التي يدور حول سودانيتها الكثير من اللقط هذه الأيام، فقبيلة “البني عامر” هي كغيرها من سائر القبائل التي تقطن شرق السودان، فالكل عدا أصحاب الحزازة يعتبرها جزء أصيل من هذا الوطن، ولها أياد لا ينكرها إلا جاحد، وساهمت في ازدهار الشرق بالعديد من الإسهامات التي يفوق عددها الإحصاء، وتدفق هذه القبيلة بأعداد كبيرة في شتى ربوع السودان، يبرهن أنها قد عبرت حدود الوطن منذ بضعة قرون، فلو كانت هجراتها ضئيلة لما تركت هذه البصمة الواضحة، وتعد “البني عامر” في وجهة نظري القاصرة من بقايا السكان الأصليين لأنها جزء لا يتجزأ من “قبائل البجة” التي لا تتجلى ضرورة للحديث عن أقدامها الراسخة في السودان، ومقالنا هذا نرمي من خلفه لتأصيل التلاحم الذي كان قائماً لعهد قريب بين كل مكونات “البجة”، لا لتأكيد أن القبيلة التي ورد ذكرها سودانية محضة، فالكل يعلم أنها من القبائل المتداخلة التي لها وجود في أثيوبيا وأريتريا والسودان، وهي في ذلك مثل القبائل المتاخمة بين دولة :تشاد” والسودان، ففي اعتقادنا أن السودان وتشاد ما هما إلا قطراً واحداً انتاشته قوى الاستعمار، وقسمته لقطر يحكمه الإنجليز، وآخر استحوذ عليه الفرنسيين، والدلالة على صحة مزاعمنا، التعاضد الذي كان حاصلاً بين السودان وتشاد في سعيهم للقضاء على المستعمر، كما لا نستطيع أن نغفل التشابه في السحنات وتقاطيع الوجه، والتشابه موجود أيضاً في اللهجات، والثقافة التي من الصعب التفريق بينها، والحس الغنائي المشترك، وأيضاً للكم الهائل من القبائل التي تقطن دولة تشاد والسودان، على سبيل المثال لا الحصر قبيلة “الزغاوة”، وقبائل “البقارة”، و”الأبالة” الذين لا يعترفون بتلك الحدود التي وضعها المستعمر البغيض، فهم يجوبون سهول تشاد والسودان ويسرفون في هذا الترحال، ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن مضمون تجوال قبائل “المحاميد” و”بني هلبة”، و”الفلاتة”، “وأولاد راشد” وغيرها من القبائل المشتركة اشتملت عليه أوضاع حياتهم منذ عهود غابرة، والشيء الذي ساعدهم على ذلك انسيابية تلك الرحلات التي لا يجابهون فيها أي عراقيل، ولعل الغاية من تلك الرحلات الدائبة التي لا تنقطع وتيرتها، خلاف البحث عن الكلأ، هو تقوية أواصر المودة بينهم وبين أبناء عمومتهم في السودان أو تشاد، فالتزاوج والروابط الاجتماعية لم يكن شأنها ضئيلاً أو محدود الفعالية بين دولة تشاد والسودان ـ ولا بين الدول المجاورة للسودان من جهة الشرق.
إن ما يحدث الآن من غمط لبعض حقوق القبائل التليدة، ما هو إلا مظهر من مظاهر الوهن الداخلي، وعدم استقراء لوقائع التاريخ، فكل القبائل السودانية المشتركة والمتداخلة، هي في واقع الأمر، قبائل نابضة بالحياة، ليس في الشرق أو الغرب وحده، بل في السودان بأسره. والحقيقة التي يجب أن نؤكدها ونصر عليها، أن معظم حدود السودان مفتوحة منذ قديم الأزل، لأجل ذلك دخلها الإسلام من غير خيل ولا ركاب، فحدوده لم تغلق يوماً في وجه طريد أو راغب للعيش بين أكنافه، فمن الخطل الذي لا يضاهيه خطل، أن تتدعي قبائل أو جماعات السيادة على السودان، فالسودان مملوك لمن عاش بين ردهات سمائه، ورحابة أرضه، فدعونا نخمد هذه الفتن التي انتشرت في طول البلاد وعرضها، والتي تدعي فيه بعض القبائل أنها صاحب الشرف الباذخ، والمجد المؤثل، والقبائل الأخرى ما هي إلا أوزاع همل، هذا هراء عريض، ليست سمات الشرف محصورة في قبيلة محددة بعينها، فكل القبائل على نمط واحد في القيم السائدة بين المجتمع السوداني.
إن السودان يفتقد الآن لحكومة مركزية بمعناها الدقيق، ما هو قائم الآن شيء أشبه باستكمال الحوار الدائر الذي ابتدأ منذ أكثر من عدة أعوام لخلق حكومة يتوافق عليها العسكر والمدنيين، لأجل ذلك أطلت الفتن برأسها، وشاع خطاب الكراهية، إن الحقيقة التي لا يرقأ إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن السودان خلاف أنه يحتاج لكيان سياسي يتولى تسيير أموره، ويخرجه من هذا الحيز الضيق الذي ورط فيه نفسه، يحتاج كذلك لعقيدة سياسية جديدة ترعى وحدته، ولا تخفق في تنميته، ولا تتخاذل في نصرته، عقيدة سياسية تستلهم رؤاها من المد الإسلامي الذي يحدث الترابط والتفاعل العرقي على نمط المساواة والمواطنة، عقيدة سياسية يحرص أهلها على توضيح الرؤى، وطرح الحلول، وتجاوز المعوقات، عقيدة سياسية ترفض في تعنت الإملاءات التي تسعى بعض الدول لفرضها على المجتمع السوداني، عقيدة تمنع في إباء وشمم توغل الأنظمة والسفراء في شؤون السودان، وتحاسب في صلابة من يداهنهم وينفذ مخططاتهم، عقيدة تضبط الشارع، وتحارب هذا الغثاء الذي طغى وانتشر، عقيدة سياسية تؤمن بأن الدماء التي تجري في شرايين شعبه ليست كلها دماء عربية، فلا يضخم من شأن تلك الدماء، فالسودان عبارة عن هجين، ومن هنا تنبع ضرورة الاحتفاء بالقاعدة التي تعلي من شأن السودان، لا الجهات التي تستلهم ماضي العرب في جاهليتهم، أو تلك التي تقيم الندوات من أجل تنشيط الدور الأفريقي الذي يمحق ما عداه. كفوا عن هذا العبث وشمروا على سواعد الجد حتى نضع جميعا النواة الأولى لسودان متميز وناهض.