د. أحمد حسين يكتب: يوتوبيا الأطباء.. وقانون مرتضى وعجينة
ما يوازي العشرين مليون جنيه، قدّرت المحكمة الأمريكية يونيه الماضي قيمة الكفالة المالية للإفراج عن ضابط على ذمة قضية تم توجيه تهمة القتل له فيها، ومعه ثلاثة آخرين فُصلوا من الشرطة ووجهت لهم تهم المساعدة والتحريض على قتل المواطن الأمريكي من أصل الأفريقي جورج فلويد، تلك الجريمة التي شهدنا أحداثها أواخر مايو الماضي، وشهدت على أثرها الولايات المتحدة الأمريكية موجات من الغضب والإحتجاجات والمظاهرات تطورت إلى العنف في بعضها.. ثار الأمريكيون لعنف ضباط شرطة ضد مواطن حتى لقى حتفه، لم يهدىء غضبهم أو يُلفت انتباههم كون القتيل متهم بإستخدام ورقة مزورة من فئة العشرين دولار، فالقاتل مجرم و المتهم أو حتى من ثبت إدانته هو مواطن تطبق عليه العقوبات المقررة في القانون والتي ليس من ضمنها العنف أو الإهانة.. البديهي أن يثور الشعب ويتساءل الإعلام وتحقق أجهزة التحقيق في وفاة مواطن بسجن أو قسم شرطة.
لا يختلف كثيرًا القانون في مصر عنه في أمريكا، هو أيضًا تقرأ فيه حماية المواطن المصري والدفاع عن كرامته والمساواة في الحقوق والواجبات، كما لا يختلف كثيرًا ضمير الحكومة الأمريكية عن الأنظمة الحاكمة في الدول العربية.. ما آراه هو إختلاف الشعوب، فشعوب تفرض البديهيات وتجبر الحكومات أن يكون القانون مصحفًا وانجيلًا تتلوه في موؤسساتها، وشعوب أخرى تسمع عن القانون فقط عند ولاية حاكم جديد يُقسم به.
في أغسطس 2013 لقي 37 سجينًا حتفهم إثر إختناقهم بغاز مسيل الدموع بعد غلق سيارة ترحيلات عليهم، وفي يوم واحد هو الأربعاء 27 فبراير 2015 لقي متهمين حتفهما داخل قسم شرطة المطرية وفي يونيه 2016 لقي متهمين آخرين حتفهما في نفس قسم الشرطة.. على غرار تلك الوقائع فالأمثلة كثيرة، ترى قاسمًا مشتركًا آخر غير مرافقة رجال الشرطة للقتلى، هو نشر وسائل الإعلام التهم المنسوبة للمقتولين مع خبر حتفهم، وكأن الإعلام يعطي مبررًا لضمائر الشعوب ألا تغضب أو تنزعج .. لقد أصبح موت المواطن في السجون وأقسام الشرطة برفقة رجالها أمرًا بديهيًا في أوطاننا، لا تتعجب بل لا تتساءل عنه.
في مارس 2019 تم الإعتداء على الطاقم الطبي بالمعهد القومي للقلب وتدمير أجهزة طبية قدرت بأكثر من ثمانية ملايين جنيه، وذلك من قبل أهالي مريض شاب توفاه الله أثناء قيام الأطباء بإجراء قسطرة علاجية له، وفي نوفمبر 2011 تقدمت ببلاغ للنائب لقيام أفراد الشرطة بتحطيم غرفة العمليات بمستشفى سوهاج التعليمي بعد إبلاغهم بوفاة زميلهم أمين الشرطة الذي حضر إلى المستشفى جثة هامدة نتيجة إصابته بأعيرة نارية.. وعلى غرار هاتين الواقعتين، الأمثلة كثيرة، ترى قاسمًا مشتركًا في أغلب تلك الوقائع و هي نشر وسائل الإعلام إتهام المعتدين أو على الأقل إعتقادهم بإهمال الفريق الطبي في التعامل مع المريض الذي توفى، وكأن الإعلام يحذر ضمائر الشعوب أن تتعاطف مع الفريق الطبي.
منذ أيام رفض البرلمان المصري طلب النائب العام رفع الحصانة عن مرتضى منصور للتحقيق معه في بلاغات مقدمة ضده بالسب والقذف، البلاغات مقدمة من النادي الأهلي، يكفيك أن تدير محرك جوجل الشهيرة على إسم “مرتضى منصور” لتعلم أن مدى السب والقذف تجاوز حدود النادي الأهلي إلى حد ما قبل “الخط الأحمر” في مصر، و قبلها في يونيه الماضي رفض البرلمان طلب النائب العام برفع الحصانة عن “الهامي عجينة” للتحقيق معه في البلاغ المقدم من نقابة الأطباء ومستشفى شربين لإقتحامها والتعدي على الطاقم الطبي بها بالسب والقذف، بينما في نوفمبر الماضي أحال نفس البرلمان “أحمد طنطاوي” العضو به إلى لجنة القيم لطرحه “مبادرة إصلاحية” رأها أعضاء البرلمان إساءة إلى مصر.. في البرلمان، في مصر القانون يغفل عنك حتى تقترب من “الخط الأحمر”.
منذ أيام تُوفي مواطن مصري داخل مستشفى القوات الجوية بالقاهرة الجديدة إثر جلطة بسبب إنسداد في الشريان السباثي، لا يحمل الخبر في طياته أية مفاجأت أو الغاز مما تلهب رواد مواقع التواصل الإجتماعي، فالمستشفى المشهود لها بالكفاءة لم ترفض إستقبال المريض بسبب التكاليف، ولم يتغيب الفريق الطبي عن متابعته.. الأمر الذي تناقل لسببه عشرات الآلاف خبر الوفاة، كون المواطن رحمه الله “يوتيوبر”مشهور يُدعى مصطفى حفناوي، شاب في منتصف العشرينيات حاباه الله ملكة القبول فلقي مشاهدات من جمهور غفير على قناة يوتيوب.. لسبب أو لأخر رفض أصدقاء المتوفي أن تغلق صفحة حياته بدعاء الناس له وترحم محبيه عليه، اتهموا الأطباء والمستشفى بالإهمال أعقبها أحدهم بتصوير فيديو نشره على صفحة فيسبوكية، أطلق على الفيديو مسمى “عملنا فخ للطبيب اللي كان بيعالج مصطفى حفناوي اسمعوا قال ايه”، ربما يعلم بعض من قرابة المليوني مشاهد للفيديو أن هذ الطبيب هو أستاذ أمراض المخ والأعصاب بطب عين شمس وربما يعلم القليل أن الطبيب ليصل إلى هذه الدرجة الفنية فقد تخطى خمسة وعشرين عامًا من الدراسة والعمل منذ التحق بكلية الطب..
يُظهر الفيديو الطبيب الذي لا يعلم بتصويره من قبل محاور يحاول استفزازه، لاحظ أول سؤال للمحاور”أنا عاوز أعرف ازاي واحد جايكلم بطنه واجعاه و يموت”، تابع الأسئلة واغبط الطبيب على ثباته الإنفعالي بل وتفهمه لمشاعر المحاور.. لو عرضنا الفيديو على مواطن في بلد أخر تختلف بديهياته دون إخطاره بتفاصيله، فسيقسم أن هذا تحقيق لوكيل نيابة مع ضابط تسبب في مقتل متهم داخل محبسه.
لم يكن الهجوم من جانب واحد، فقد تسربت على صفحات التواصل الإجتماعي تقارير طبية منسوبة للمستشفى تفيد بتاريخ مرضي للمتوفي بتعاطي مواد مخدرة، لم أندهش عندما وجدت أن معظم الإنتقادات الموجهة لنشر تقرير المريض الطبي، كان مصدرها الأطباء أنفسهم فهي بديهيات يحفظها ويعايشها كل طبيب تلا قسم مهنته وقرأ آدابها فعلم أن سرية معلومات المريض مصانة ضمن ما قسم عليه.. صديقي د.محمود الحبيبي أستاذ الطب النفسي والإدمان كما كتب شاكرًا أستاذ المخ والأعصاب على هدوئه وأخلاقه وإحترامه لألم أهل المتوفي، فقد كتب أيضًا مؤكدًا أن نشر معلومات طبية عن المريض جريمة.
في ظل تلك الوقائع المتناقضة، تتزامن ظهور نتيجة المرحلة الثانوية وكعادة كل عام تعتلي كليات الحقل الطبي هرم التنسيق وعلى رأسها الطب البشري.. لوهلة قد تصف المواطن بالجنون أو اللامنطق أن يشجع نجله على الإلتحاق بكلية الطب ليصادف مصير من يصفهم بـ”الجزارين” أو يتهمهم غيره بـ”الإهمال”، ولكن عندما تعود لدراسة إحصائية صدرت في مارس العام الماضي عن المجلس الأعلى للجامعات بالتعاون مع وزراة الصحة ونقابة الأطباء وفيها أن عدد الأطباء على رأس العمل فعليًا في الجهاز الحكومي في مصر يقدر بـ 82 ألفا من أصل 213 ألف طبيب مرخص لهم بمزاولة المهنة ولم يصلوا بعد للمعاش،أي أن من يعمل في الحكومة 38% فقط من الأطباء.. ستعلم أن المواطن يريد لنجله أن يكون طبيبًا ضمن ال 68%.
الخطر الداهم على المجتمع والفاجعة للأطباء أن تختل البديهيات لدى المتبقي منهم في مصر والعامل في الحكومة، تدهس قوانين “مرتضى وعجينة” قسم مهنتهم.. وعندما تختل العدالة ويغيب القانون فلا تسأل عن آداب مهنة