د. أحمد حسين يكتب: محاولات نقل وتأجير أراض مستشفى العباسية منذ مبارك.. درء لجريمة الصمت
نقل كباش الأقصر ، هدم مقابر المماليك التاريخية، إنشاء كوبري سيعصف بكنيسة البازليك، إزالة قصر برسوم باشا حنا الأثري، وسور مجرى العيون المتهدم..
أخبار تقرأ وتتداول فتسمع، غير الوجوه التى تشهد بمرأى عيونها السرعة والنشاط في هدم تاريخنا ومسخ هويتنا، صُمت الآذان وطُمست العيون، فهل بين كل تلك المشاهد إثارة لغضب أو لدهشة الرأي العام في أن يقرأ أو يسمع خبراً عن تحويل جزء من أراضي مستشفى إلى محال تجارية، حتى لو كانت تلك المستشفى ذات طبيعة خاصة وأثر تاريخي.. ربما إعتمد مخططو الإستيلاء على 7500 متر مربع من مستشفى العباسية للصحة النفسية على تشبع المصريين بالصدمات والكوارث، في أن تمر هذه الجريمة دون وقفة وحساب.. ولكنهم لم يدرسوا التاريخ جيدًا، فللمستشفى رب يحميها.
لعنة وعشق
ما إن تطأها قدميك حتى ينتابك شعور بالإنتماء يرتقي سريعًا إلى العشق، عبق التاريخ الذي يمتد لعام 1883 حين كانت قصرًا للخديوي عباس فحولت إلى مستشفى للأمراض النفسية أطلق عليها “السرايا الصفراء” لدهانها باللون الأصفر بعد حريقٍ حدث بها، شعور الألفة مع نزلائها لا يخلو من الإستغراب والإستهجان عندما تكتشف زيف الصورة التي رسمها لهم من بخارج أسوار المستشفى، لوحة وجدانية مبطنة بالطمانينة تستظل بفروع الشجر الذي يمتد جذوره لأكثر من قرن، مريضٌ مكث بها خمسة عشر عامًا لتجاهل أهله إستلامه بعد إستقرار حالته، وعندما عُثر عليهم وتم إنهاء إجراءات خروجه مات على بوابة المستشفى، بعد أن تُرهق تفكيرًا في سبب إرتباطك بها ستسلم بأنها من الغيبيات التى لن يصل لتفسيرها عقل..هذا قطعًا عن شعور البشر.
مصر المصغرة
إن عملت بمستشفى العباسية للصحة النفسية سابقًا أو لك زميل أو صديق يعمل بها، فبالتأكيد قد سمعت مقولة “العباسية نموذج مصغر لمصر”، فكما يوجد بها البشر هناك أيضًا “تجار البشر”، أدر حوارً مع قدامى العاملين بها عن مصير من ظلم مريضًا أو استغل مقدراته حتى البسيط منها كالملبس أو المأكل، وستسمع روايات حقيقية بالأسماء والتواريخ عن فلان الذي دهسته سيارة وهذا الذي أُصيب بالأمراض المستعصية ومؤخرًا المودع بالسجن.
انتهى مبارك وانتصرت العباسية
استقطعت من أرضها وزارة الإستثمار، وجزء من مساكن الضباط، والمعهد القومي للتدريب، واستولت محافظة القاهرة على حديقة العروبة، الغرض المعلن كان لتجميل الحديقة والحقيقي لتأمين المواكب أثناء حكم مبارك.. تلك كانت المعارك التي هُزمت فيها المستشفى وفقدت فيها أجزاء من أطرافها، وانتصرت في مواقع كثيرة أخرى، كانت أشرسها في معركتها ضد حكومة مبارك في الشهور الثلاثة الأخريات من عمر الأخيرة، عندما قررت حكومة مبارك في سبتمبر 2010 نقل مستشفى العباسية للصحة النفسية إلى مدينة بدر واستخدام أرض المستشفى وأرض المعارض ضمن مشروع تجاري عالمي، على مدار تلك الشهور خاض المجتمع المصري كله ومن ضمنه العاملين بالمستشفى حربًا مع الحكومة، انتهت بتوجيه من مبارك إلى أحمد نظيف رئيس حكومته وحاتم الجبلي وزير الصحة، أثناء زيارة لمحافظة أسوان في 31 ديسمبر 2010 قائلًا: “ارفعوا ايديكم عن مستشفى العباسية”، وكان هذا أخر تصريح نُشر عنه قبل ثورة يناير التي انهت حكم مبارك..واستمرت العباسية.
إنعدام اهتمام..وليست قلة أموال
مستشفى لطب نفسي وإدمان الأطفال والمراهقين، مركز لعلاج الإدمان، شبكة مكافحة الحريق، مبنى للعيادات الخارجية والطوارىء، وغيرها الكثير من المشروعات المُعدة والتي تم دراستها وبعضها صرفت عليه أموال، وجميعها تسكن أدراج مسوؤلي مستشفى العباسية والأمانة العامة للصحة النفسية، وماذا لو علمت أن أموال الميزانية المخصصة للصرف على تلك المشروعات لا تنفق عن أخرها!..في المقابل نفس هولاء المسوؤلين يسابقون الزمن بكل همة ونشاط، دراسات وصياغة عقود واجتماعات، وأيضًا مؤامرات وخطط لدحر أعدائهم الذين يحاولون عرقلة مشروعهم، تسأل عن المشروع الذي أحيا العزيمة في عقول وعروق المسوؤلين، هو تأجير 7500 متر مربع من أرض المستشفى بطول 300 متر بواجهة المستشفى على شارع إمتداد رمسيس و بعمق 25 مترًا داخل المستشفى، لمدة 25 عامًا لوزارة الإنتاج الحربي لتقوم بدورها بإقامة مركز تجاري من عدة طوابق يحتوي على محال وتوكيلات تجارية وأفرع بنكية.
محاولة تخريب الضمائر
يروج سماسرة المشروع من المسوؤلين، للعاملين بالمستشفى أن توجههم لتحويل هذه المساحة من المستشفى إلى محال تجارية لتمويل صندوق تحسين الخدمة بالمستشفى، حتى تستطيع الإدارة صرف مستحقاتهم التي كانوا يتقاضونها من الموازنة العامة و تقلصت بموجب قانون 14 لسنة 2014، ويعلم المسوؤلون قبل العاملين كذب هذا المبرر، فموارد الصندوق متغيرة يستحيل معها استمرار صرف مستحقات بشكل ثابت ودوري، وماذا عن باقي مستشفيات الصحة النفسية بمحافظات الجمهورية والتي لا تمتلك مواقع متميزة، هل ستقتطع تلك المستشفيات من أراضيها لإقامة “ملاهي ليلية” لصرف مستحقات العاملين بها أسوة بمستشفى العباسية..فضلًا عن كل ذلك، فمنعًا لأي عذر قد يعتذروا به مستقبلًا، فقد أحطت علم سماسرة أرض العباسية من مسوؤليها، بإنه بإستقطاع أي جزء من المستشفى لأي غرض غير الخدمة العلاجية هو بمثابة تنازل من وزارة الصحة عن هذا الجزء لمالك الأرض وهو هيئة أملاك الدولة، والتي يحق لها توجيه إستخدامها كما يتراىء للحكومة، وهذا ما حدث فعليًا بحديقة العروبة التي أصدرت الجمعية العمومية للفتوى والتشريع بمجلس الدولة،فتوى بمآل الحديقة إلى أملاك الدولة بعد وضع يد محافظة القاهرة عليها بدعوى تجميلها..لا عذر لمسوؤل ولا مبرر له في المضي في هذا المشروع سوى منفعة شخصية موصومة بالفساد المالي.
درء الجريمة
لا أكتب ولا أطالب المجتمع والرأي العام بخوض معركة لوقف الإستيلاء على مستشفى العباسية، فكما قلت لك العباسية هي “نموذج مصغر لمصر” وقد فشلنا في منع بتر “مصر الكبرى” بالتفريط في أرضها، إنما أكتب وأتكلم وأطالب غيري لدرء جريمة الصمت عنا، ولعلها تصبح الكلمة كما قال عبد الرحمن الشرقاوي عن لسان الحسين”الكلمة زلزلة الظالم ،الكلمة حصن الحرية،إن الكلمة مسوؤلية”..أما عن العباسية، فلها ربٌ يحميها.