د. أحمد حسين يكتب: تحرش بالأطباء والمرضى.. نظام الجزر المنعزلة والمالية تسيطر
المشهد الأول يتضمن فقرات متسلسلة “السياحة العلاجية والاهتمام بها كأهم مصادر الدخل من العملة الصعبة، مجلس أعلى للإستثمار برئاسة رئيس الدولة لجذب الاستثمارات وطمأنة المستثمرين، عجز شديد في الأطباء والتمريض على مستوى العالم والدولة تتخذ عدة قرارات للحفاظ على أمنها الصحي”.. بينما المشهد الثاني يتضمن فقرات متسلسلة أيضاً “حبس الأطباء والتمريض لتسببهم في أضرار طبية، المطافي والإدارة المحلية والإسكان ترفض تراخيص العيادات والمراكز والمستشفيات الطبية، اعتداءات متتالية على الفريق الطبي ورفض أقسام الشرطة إستقبال البلاغات عن إدارات المستشفيات، و……. “.
التفكير المنطقي لأي شخص سوي يؤكد أن هذين المشهدين في بلدين مختلفتين التخطيط، الأولى للبناء والأخرى للهدم، أو لمسرحيتين متناقضتين أولاهما للسعادة والثانية للتعاسة.. ولكن في مصر يتحقق اللامنطق، بينما يعلن رأس الدولة رئيس الجمهورية الاهتمام بالاستثمار ومنه الاستثمار في الصحة وتعلن جميع الجهات المعنية اهتمامها بالسياحة العلاجية وتصرخ الأصوات محذرة من انقراض الأطباء، في نفس التوقيت في مصر يكاد يشعل النار في نفسه كل من يتصدى لترخيص عيادة أو مركز أو مستشفى في مصر، المفترض أن وزارة الصحة هي المعنية بالترخيص ولكن سبل المشقة تكمن في الدفاع المدني والمحليات والإسكان، هنا في مصر أن تعتدي على طبيب أو ممرض أسهل بكثير غرامة إلقاء قمامة في الشارع التي لا يوجد من يطبقها، اعتدي على طبيب في عمله وحرر له محضر مضاد بالتعدي وسينتهي بالتصالح وربما الإعتذار لك من الطبيب، فالأغلب أقسام الشرطة ترفض تحرير محضر التعدي عن إدارة المستشفى حتى لا يتم تكييفها تعدي على موظف أثناء تأدية عمله.
راسلني طبيب تكليف في أحد وحدات أسوان عن حادثة تعدي عليه وتواصل أحد مسؤولي الإدارة ليسلمه رقم هاتف أحد أفراد القرية ليتدخل في الصلح، في مصر يعاني الطبيب الأمرين في تلقيه العلاج عند مرضه ويتم معاملته أسوء معاملة ولنا في الأقصر أمثلة.
كم من متهم تم إعدامه واكتشف لاحقاً براءته، وكم من مواطن قتل أو أصيب أثناء مداهمة الشرطة لوكر إجرامي، لم نسمع عن محاسبة قاض لم يوفق في حكمه أو شرطي أصاب أحد المواطنين بالخطأ أثناء عمله، أي عمل بشري يحتمل الخطأ، لا يوجد منتج متدخل فيه عامل بشري مضمون الدقة فى كل الأحوال ( مغسل وضامن جنة! )..لكن عند الفريق الطبي الأمر يختلف، إذا كان الطبيب مؤهلاً ومرخصاً له أن يقوم بالإجراء فالمطلوب منه أن يشفى العليل ويشفى المصاب، أما العائق الذي لم يوفقه الله فتحدث مضاعفة أو الشقي الذي يخطىء فعليه أن يواجه عديد من أو أوجه المرار، تحقيق في قسم الشرطة المقدم فيه بلاغ المريض أو أهله، تحقيق في النيابة العامة، تشهير على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإعلامية، تحقيق في مصلحة الطب الشرعي ثم جولات المحاكم..السجن والغرامة والتعويض واحتمال البراءة، كل هذا في الأغلب الأحوال لا يصل إليه المجرم “الطبيب” فالأكثر يضحي بـ”تحويشة عمره” وإن لم تكفي يستدين لدفع ما يفرضه عليه محامي التعويضات طرف المريض.
الأطباء المصريين المصرح لهم بممارسة المهنة حوالي ٣١٩ ألف طبيب وطبيبة منهم ما يزيد عن ١٥٠ ألف خارج مصر، ومن تبقى بداخلها بعضهم هجر المهنة والباقي توهم الأمل في جدية الحكومة لحل مشكلات المهنة وأهمها إتمام الولادة العسيرة لقانون المسؤولية الطبية الذي حملت به الحكومات المتعاقبة على مدار أكثر من ستة سنوات، لنفاجيء منذ أيام بنشر مشروع قانون للمسؤولية الطبية صادم وقاضي على البقية من أطباء مصر، هذا المشروع يؤكد على عقوبة الحبس بل ويجمع معها الغرامة المالية التي لا تقل عن مائتي ألف جنيه تسدد لخزينة الدولة على كل طبيب “مجرم” مرخص له مزاولة التخصص إذا ارتكب خطأ تسبب في ضرر طبياً أو أهمل في التدوين بالسجلات الطبي أو نسي توعية المريض بالعلاج وأخذ موافقته أو استعمل أدوات غير مناسبة، هذا بخلاف تعويض المريض عن الضرر والذي تركه القانون للمنازلات بين المريض والطبيب في ساحات المحاكم.
علمت أن وزارة المالية اعترضت على اقتراح النقابة في مشروع قانون المسؤولية الطبية المقدمة منها فيما يخص إنشاء صندوق للتعويضات تكون موارده استقطاعات من الأطباء والمنشآت الطبية ضمن وثيقة تأمين إجباري ضد أخطاء المهنة، وذلك لأن وزارة المالية ترى أنه بتطبيقه على المنشآت الحكومية سيكلف موازنة الدولة، أيضاً الإدارات المحلية تهدف إلى جمع الأموال عندما تشترط ترخيص المنشآت الطبية في وحدات إدارية وكأن الخدمة الطبية سلعة تجارية، وكذلك الدفاع المدني يطلب أموالاً للتدريب والإعتماد..الكل يهدف إلى ملء خزينته ولم يدرس ما تخسره الدولة من أموال، هجرة الأطباء واستنزاف القطاع الخاص بالعراقيل وممارسة الأطباء للطب الدفاعي خوفاً من الحبس سيكبد خزينة الدولة أضعاف ما تحصله خزائن الجهات، فضلاً عن المفهوم الغائب عن فكر الحكومة المصرية” الإستثمار في صحة الشعوب أهم ركائز الدول المتقدمة”.
لم أكن ضمن أصحاب نظرية تحرش الحكومة واستفزازها للقطاع الطبي وبالأخص الأطباء، وكنت وما زلت أرى أن آفة مصر هي الجزر المنعزلة في العمل واتخاذ القرارات المتضاربة، ولكني أصبحت أجد المبرر الكافي لمن يظن أن الحكومة تسعى للبقاء على البقية من أطباء مصر.