د. أحمد حسين يكتب: القطاع الطبي بين وعود السيسي وإبداعات النواب
واقع مرير للمنظومة الصحية يتجسد في معاناة طرفي المنظومة، المريض متلقي الخدمة والفريق الطبي مقدمها، لم يعد هذا الواقع يحتاج لاستدلالات تدلل على مدى مرارته، فقد طال تقريباً كل طبقات المجتمع المصري عدا الأسر القليلة التي تقلها الطائرات إلى خارج مصر عند مرض أحدهم.. ما قد يحتاج بعض القراءة والاستدلال هو الإجابة عن سؤال، هل بالفعل لدى الحكومة أو النظام المصري نية حقيقية وجادة لامتلاك مصر نظام صحي قوي وجيد.
انتبهت دول العالم خاصة بعد جائحة كورونا إلى خطورة وقوة تهديدات المرض على شعوبها بأكثر من تهديدات الجيوش البشرية، تبارت في توفير الأسلحة للحروب ضد المرض بقدر وأكبر من توفير قاذفات الصواريخ والأسلحة النووية، الأطباء والتمريض التي أثبتت الدراسات والاحصائيات عجز في أعدادهم وعزوف في جميع دول العالم عن دراسة الطب لما فيها من معاناة ومشقة دون مقابل يوازي هذا الكبد، تنافست دول العالم في جذب الأطباء من خارج مواطنيها، فتساهلت في شروط الإقامة واللغة وقدمت عديد من التسهيلات إلى جانب الرواتب المرضية.
هنا في مصر حيث لا جدوى من دراسات ولا وزن لها، الصورة الوردية تقرأها وتسمع وصفها فقط في إعلام سامسونج، وعندما تنظر إلى الواقع تعيش كم من المتناقضات تحتاج إلى مزيد من الأدوية النفسية لتتجنب اقتحام حاجز الجنون.
في الإعلام إشادة الرئيس والمسؤولين بالجيش الأبيض وتضحياته وتوجيهات بالاهتمام وتحسين أحوالهم، وفي نفس الإعلام الإتهامات المطلقة بالجشع والقتل لجموع الأطباء في واقع الأرض المصرية، يموت الأطباء حرفياً من مشقة العمل المتواصل ليقاوم الأغلبية أعباء الحياة ويزيد على أجرة الحكومة بعمله بالثلاثة آلاف جنيه، يقف الأطباء متهمون ينتظرون الحكم بالسجن في اتهام صح أو كذب فهو نتيجة لممارسة عمل مهني، يقف الأطباء أمام جبال عقبات الحماية المدنية والبيئة والتموين والإدارة المحلية والضرائب ووزارة الصحة، حروب ضروسة قد ينجح أو يفشل معها في إيجاد دخل إضافي عبر عمل خاص، في نفس الوقت الذي تعرض فيه الحكومة بعض مستشفياتها للقطاع الخاص ويتمنى رئيس الوزراء على المستثمرين أن يطلبوا “لبن العصفور” ليوفره لهم، بالطبع هولاء المستثمرون ليسوا من عامة الشعب الذي يتضمن أغلبية الأطباء.
عام ٢٠٢٠ توجيه الرئيس السيسي بإنشاء صندوق مواجهة مخاطر المهن الطبية، الصندوق موارده عبارة عن مستقطعات من مستحقات العاملين بالقطاع الصحي أنفسهم، جمعية تديرها الحكومة مثل صندوق المعاشات قد تزيد الموارد فيه عن المصروفات “من دقنه وافتله”، وفي عام ٢٠٢١ يوافق البرلمان على إنشاء الصندوق، البرلمان الذي لم يعلق على طلب النائب فريدي البياضي بضم العاملين بالقطاع الصحي إلى صندوق شهداء ومصابي القوات المسلحة والشرطة الذي تأتي موارده من الشعب المصري أجمع.
ومنذ شهرين توجيه للرئيس السيسي ينقله الإعلام ببلورة حزمة حوافز مالية للفريق الطبي، تسكن بعدها وسائل الإعلام لتستعيد نشاطها منذ أيام بنقل توجيه آخر للسيسي عن حوافز الفريق الطبي وإنشاء عيادات مسائية يكون للأطباء نسبة من دخلها “من دقن المريض وفي جيب الحكومة”، هل ستحمي هذه العيادات بالمستشفيات الطبيب من ساعات العمل غير الآدمية التي تقتله، وما الفارق في الخدمة التي تقدمها العيادات المسائية عن نظيرتها الصباحية في نفس المستشفى، ومن المرضى التي ستتوجه لهذه المسائية، وكم سيكون مقابل الكشف الذي يدفعه المريض بها وما يتحصل الطبيب منه.. ما يتحصل عليه الطبيب في بعض المستشفيات الجامعية التخصصية المطبق بها هذه العيادات نسبة ٤٠% من مقابل الكشف يخصم منه ضريبة كسب العمل ويعمل الطبيب يوماً أسبوعياً بها.
يخرج علينا بين الحين والآخر نواب البرلمان يذكرون الشعب بوجودهم ولا يجدوا سوى الفريق الطبي مسرحاً لطرح إبداعاتهم، تارة باقتراح منع السفر للأطباء وتارة بمنعهم من العمل الخاص، وأخيراً دخل الأطباء ساحة تجارة الرقيق فيقترح أحدهم تصديرهم إلى الخارج للحصول على العملة الصعبة.
الخدمة الطبية ليست ورقة جريدة حتى نكتب عليها أننا أعظم دولة في العالم، وليست مسرحاً حتى نمثل فيه سيناريو خيالي لبلد خضراء، الخدمة الطبية هي منتج ملموس يتم تقييمه بناء على أداء مقدم الخدمة ورضاء متلقيها.. رفع أجور حقيقي للفريق الطبي بساعات عمل آدمية، رعاية اجتماعية وتدريب مستمر وقانون حماية مهنية ووظيفية وإمكانيات حقيقية في منشأة تقديم الخدمة.. لن نعيد اختراع نظام سبقتنا في إثبات فعاليته معظم دول العالم وأقربها إلينا دول الخليج، اشتراط التفرغ في العمل الحكومي مقابل أجر مناسب وخدمات إجتماعية وتأمينية، وقبل أن تقارن بين الدخل في الخارج ومصر، فلا نطلب سوى أن يعامل الفريق الطبي بنفس حقوق ومستحقات المهن في مصر التي يشترط فيها التفرغ مثل ضباط القوات المسلحة والشرطة والقضاء.. ويبقى السؤال الذي مازالت إجابته واضحة جلية، هل لدى النظام المصري نية حقيقية في منظومة صحية جيدة.