د. أحمد حسين يكتب: الشعوب والأديان.. لعبة الأنظمة الحاكمة في كل مكان
الإساءة إلى الأديان السماوية وكتبها والرُسل التي بلغوها إلى البشر قطعًا مرفوضة، و مؤكد أنه جميل أن تثور الشعوب وتسخط على من يُبدي مثل تلك الإساءات ويجهر بها، ولكن بأي وسيلة تغضب الشعوب و بأي سلاح يتراجع المُسيء ويرتدع..رجل وضع مُلصق على ثلاجة منزله يحتج فيه على سوء طعام زوجته،مرت سنوات ينتظر أن تتحسن جودة الطعام أو حتى تناقشه زوجته في إعتراضاتها، إلا أنه أدرك مؤخرًا أنه أرمل و يعيش منذ سنوات بمفرده بعد وفاة زوجته،فهل رأيت فائدة لإحتجاج الرجل الذي لم يشعر به أحد فيشفق عليه..و هل تتوقع عائد من رسم و هاشتاج إنتشر على الصفحات الفيسبوكية للعرب لنصرة رسول الله محمد عليه صلوات الله وسلامه.
مايو2018 بدأت حركة السترات الصفراء بفرنسا،و هي حركة شعبية إمتدت على مدار عامين،قامت بالإحتجاجات على رفع أسعار الوقود و غلاء المعيشة و زيادة الضرائب، أيضًا تناقلت الإحتجاجات وسائل الإعلام في دول العالم المختلفة، وإنتفضت شعوب تلك الدول على صفحات التواصل الإجتماعي،أغلبها مؤيد و البعض معارض نظرًا لوجود أعمال عنف، لكن الشعب الوحيد الذي أرعب ماكرون و حكومته و أجبرهم على خفض الأسعار والتراجع عن الزيادات الضريبية بل و تخفيض المقررة فعليًا،كان هو الشعب الفرنسي فقط نتيجة تحركه و تصديه للظلم.
مواطن أدلى برأيه على صفحة التواصل الإجتماعي ، صحفي في مهمة لعمله، طبيب أو معلم انتقد قصور في اداء و فكر مسوؤلي مؤسساته،محامٍ تصدى لقضايا حقوقية،قريب لشخص غير مرغوب فيه،عابر طريق في وقت يشوبه الإرتباك،متشبث بالأمل..بعض من نماذج لعشرات المئات من الآف المحبوسين في السجون المصرية،الغالبية العظمى منهم بالحبس الإحتياطي و لم يقدموا للمحاكمة رغم مرور سنوات على كثير منهم، سبتمبر الماضي فقط تم القبض على 2156 مواطن منهم 60 قاصر و 16 فتاة و ذلك بحسب شهادات المحامين و المنظمات الحقوقية..استغاثات الأهالي و نداءات المتعاطفين و بيانات الأحزاب و مطالبات المنظمات الحقوقية-بالطبع كل تلك مصرية- لم تحرك ضميرً مستقرًا لدى النظام و رجالاته للإفراج عنهم أو على الأقل تقديمهم لمحاكمة قضائية..يُذكر أن آية حجازي و التي رفضت التنازل عن جنسيتها المصرية مما جعل حبسها يدوم قرابة الثلاث سنوات،لم يُفرج عنها و زوجها إلا بعد تدخل الرئيس الأمريكي و مطالبة الرئيس المصري بالإفراج عنها،حيث أن حجازي تحمل الجنسية الأمريكية،و يذكر أن 56 عضوً من الديمقراطيين في الكونجرس الأمريكي قد أرسلوا كتابًا إلى السيسي منذ أيام يطالبونه بالإفراج عن مسجوني قضايا الرأي.
ضرائب تُجبى و تزداد كما يزداد جبروت فارضيها،شركات و مؤسسات تُغلق ثم تباع لأصحاب السيادة،لا إستثمار و لا صناعة إلا بمباركة البلاط العالي،خلف حدود متأخمة يُقتل و يُهجر عشرات الفلسطنيين يوميًا،و على بعد منها مئات الأطفال و الآف الشيوخ و النساء يموتون جوعًا و مرضًا في اليمن،و هناك في تركيًا يقطع مًنشار فرعونُ معارضًا له..الصمت الحالك كان رد فعل الشعوب،ربما أكون و تكون تجرَّعت آهة أسى أو غضب عند مرورك على إحدى تلك الأحداث،هضمتها فابتعلت خلفها خبر عن نادي برشلونة و مهرجان الجونة.
نبي الرحمة محمد عليه أفضل الصلوات و أذكى السلام،رفض أن يأمر ملك الجبال أن يطبق الجبلين على أهل الطائف عندما أذوه نفسيًا و بدنيًا حتى سالت الدماء من قدميه،تسامح في حقه بينما لم يفرط قط في حد من حدود الله و منهجه،من تلك الحدود و الواجبات نصرة المظلوم و كلمة الحق،فيقول المولى في قرآنه “و من أَظلمُ ممَّن كتم شهادَةً عنده من الله” كما يقول”و جَحَدوا بها و استيقنتْها أنفُسهُم ظُلمًا و عُلُوًّا فانظر كيف كان عاقِبةُ المُفسدين”.
ماكرون رئيس فرنسا قال أن “الإسلام في أزمة”،أساء حقًا إلى الإسلام،و لكنه في الأغلب عن عمدً خلط بين الإسلام و المسلمين،في عقيدة المسلمين كما أخبرنا الله أنه قادر على نصرة دينه و أن الإسلام باقِ إلى يوم الدين،أما البشر فكما بلغنا خالقهم أنه يبدلهم حيثما و أينما شاء،لم و لن يكن الإسلام في أزمة،المسلمون و الشعوب العربية هم من في أزمة حقيقية،المسلمون هم الذين قصروا في نشر و توضيح صحيح دينهم و شرح معتقداتهم و مقدساتهم لغيرهم..الآف الفرنسيين تظاهروا و انتفضوا لمقتل مواطن فرنسي،و لم ينتفضوا دفاعًا عن ماكرون و لا كرهًا للإسلام،أيضًا لم تكن الشعوب الغربية و منهم الفرنسيين متعمدة و مُصرة على الإساءة إلى رسول الإسلام أو مقدسات أي دين آخر،ففي نفس الوقت الذي يتعمد ماكرون أن يجعل من البشر حُجة على الأديان السماوية،و يخلط بين حرية التعبير و التعرض لعقيدة المسلمين،هناك”فيليب غيلاك” الرسام البلجيكي الذي صرح أنه يرسم كاريكاتير ساخر عن الأرثوذكسية لأنها ديانته و يعرفها و يعرف ثقافة معتنقيها،و لكنه علم أن المسلمين يقدسون الأنبياء و لا يسمحون بتجسيد شخصياتهم،فليس من المنظقي أن يتعرض لمعتقداتهم و مقدساتهم بدعوى حرية التعبير.
على نقيض الشعوب التي تحترم الأديان و حرية العبادة،هناك الأنظمة الحاكمة لتلك الشعوب التي لا تعتني بالأديان و لا تهتم بمعتنقيها،النظام في أي دولة بإختلاف دوافعه سياسية أو إقتصادية، لا يهدف إلا لبقاءه أطول فترة في الحكم،و في سبيل ذلك الهدف يفعل النظام أي شيء و يقترف كل الآثام..عندما قُتل جورج فلويد المواطن الأمريكي من أصول أفريقية على يد رجال الشرطة و قامت الإحتجاجات الشعبية في الولايات المختلفة ،ترامب الذي لا تُنكر عنصريته رفع “الإنجيل” إلى شعبه رغم أن الإنجيل ينهى عن العنصرية و الظلم بشتى أنواعه”لا تتَّكلوا على الظلم”و “تعلَّموا فعل الخير،اطلبوا الحق،انصِفوا المظلُوم،اقضوا لليتيم،حامُوا عن الأرمَلَة”، لكنها لم تكن آيات الإنجيل و لا تغريدات الشعوب و منها العربية هي من قهقرت ترامب و أرعبته،بل هو تحرك و تصدي الشعب الأمريكي للظلم،و ماكرون عندما فشل في القيام بدور زعامة حقيقية انبرى يبحث عن زعامة وهمية في مراهقة سياسية عنوانها”الفتنة الطائفية”و التي قد تعصف بالعالم أجمع،و لدينا في الأنظمة العربية من يرفع القرآن علمًا له و هو أبعد ما يكون عن تعاليمه،و من استبدل القسم بالله فواصل جمل عباراته و هو الكذاب الأشر.
رفع المسلمون شعار”لا للإساءة لرسول الله” و تضامن معهم المسيحيون،و نادت الشعوب الإسلامية بمقاطعة المنتجات الفرنسية..و اعتقد البعض أن تلك الحملة قد بدأت تأتي ثمارها و تراجع النظام الفرنسي عن موقفه، لا أفقه اللغة الفرنسية و قد تكون لا تجيدها،فاقرء الترجمة عن المواقع الأجنبية و لا تثق بقليل في المواقع العربية التي تنقل المضمون في تحريف للنص،جاء في بيان الخارجية الفرنسية أمس الأحد 25 أكتوبر حسب CNN تعقيبًا على دعوات المقاطعة”نتيجة لذلك،فإن دعوات المقاطعة لا طائل من ورائها و يجب أن تتوقف على الفور،و كذلك كل الهجمات الموجهة ضد بلدنا،و التي تستغلها أقلية متطرفة،تم تعبئة الوزراء و كامل شبكتنا الدبلوماسية بشكل كامل لتذكير شركائنا و شرح مواقف فرنسا،خاصة فيما يتعلق بالحريات الأساسية و رفض الكراهية،و دعوة سلطات الدول المعنية إلى التنصل من أي دعوة إلى المقاطعة أو أي هجوم ضد بلدنا،و دعم أعمالنا و ضمان سلامة مواطنينا في الخارج”..توقف قليلًا في هذه الفقرة عند كلمات(يجب،على الفور،أقلية متطرفة،الوزراء،شبكتنا الدبلوماسية،شركائنا،سلطات الدول،دعم)،ضف إليها أيضًا أول جملة في تغريدة ماكرون على تويتر”لا شيء يجعلنا نتراجع أبدًا”..و إن لم تكن قد تابعت بعض الأخبار مؤخرًا من وطننا العربي،فدعني أخبرك بمضمون بعضها و ابحث عنها لتقرأها بالتفصيل،فقد أعلن مركز الإمارات للدراسات و الإعلام أن محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي أكد لماكرون دعمه لإقتصاد فرنسا ضد الحرب الممنهجة التي يقودها الإخوان المسلمين العالمي بمقاطعة المنتجات الفرنسية،و في برنامجه خاطب شيخ السلطان خالد الجندي المسلمين بكلمات منها الكثير حق و التي لا أثق في مرادها،منها”علشان تبقوا فاهمين أن فيه ناس بتحرككم علشان تبقوا العوبة في أيدي النظام التركي الي بيحاول يعمل زعزعة،مش حكاية بقى رسول الله و لا مش رسول الله،إحنا مليار و نصف مسلم دعوات المقاطعة بتيجي عندنا إحنا بس،الي عاوزين يقاطعوا دول عاوز يكون فيه وعي و أنت بتتكلم،عاوز تقاطع لافشكيري يعني،كبيرك تقاطع الجبنة الجيريرو،أنت ناسي حضرتك المفاعلات النووية و مترو الأنفاق و محطات الكهرباء”و يقرأ الجندي من موقع الجهاز المركزي للتعبئة و الإحصاء”توجد 165 شركة فرنسية بمصر فيها 38 ألف موظف مصري،تبلغ الإستثمارات الفرنسية في مصر 5 مليار دولار،يصل حجم التبادل التجاري للبلدين 2.8 مليار دولار..هتهجص و تقولي مقاطعة،خليك راجل عاقل و أنت بتتكلم،عاوز تكون فداء لرسول الله وريني أخلاق رسول الله،إنما هتنتهي كما انتهت حادثة الدنمارك و هيروح بعض الشباب من هنا معهم بعض الدعاة الجدد،يتبادلوا صواني الفضة و الصور التذكارية السلفي و يرجعوا كان الله بالسر عليم”،و على صعيد بعيد عن إهتمام الهاشتاجات و الدعوات،أعلنت السودان التطبيع مع إسرائيل و وافقت الأخيرة على ترحيل السودانين في أراضيها و تسليمهم للنظام السوداني،و يُذكر أن الرئيس المصري هنىء و بارك هذا التطبيع التالي للإمارات و البحرين بينما وقعت الأخيرة مع اسرائيل اتفاقية لمحاربة نزع الشرعية عن إسرائيل،و في إحدى النوادر تنشر الصحف المصرية تصريح لرئيس تركيا يدغدغ مشاعر الشعوب الإسلامية و يستفز النظام الفرنسي حيث صرح اردوغان أن على ماكرون فحص صحته العقلية.
أنظمة الحكم في الدول الديمقراطية لا تخشى سوى شعوبها لأنها القادرة على تغيير تلك الأنظمة،بينما لا تولي إهتمامًا كثيرًا بالشعوب العربية فالأنظمة التي تحكمها هي صاحبة القرار،لذا يتضح من بيان الخارجية الفرنسية رعبها من تعرض مواطنيها بالخارج للأذى أما عن إستثماراتها و مصالحها الإقتصادية فهي تيقن أنها بأمان طالما أن الشعوب العربية لا تملك قرارها بينما تمتلك ذاكرة السمك في الإهانات و الإساءات فهي شعوب معتادة على التأقلم مع القهر.
لست ضد مقاطعة منتجات الغربيين فأنا أقاطعها منذ عقود لا أمتلك منها-على سبيل الذكرى- سوى عبوات فارغة من القنابل المسيلة للدموع منتهية الصلاحية أهدتنا إياها الشرطة المصرية في 2011 ،و لكن أحذر من إفراط الأمل في جدوى تلك المقاطعة..أما الفائدة الأكبر أو الحقيقية من تلك الدعوات أن نختبر أنفسنا في التحرر من الخوف،بتطوير الإعتراض من يافطة على ثلاجة المنزل إلى بابه علها تصل يومًا إلى الشارع فيدرك الجميع أننا أصحاب البيت و نعاني سوء أحوال البيت.