د. أحمد الخميسي يكتب عن “أبطال الصمت”: محمد أفندي العباسي رافع العلم (كراسات التحالف)
كنا ونحن مازلنا تلاميذ نقف صباح كل يوم في فناء المدرسة لنقوم بتحية العلم قبل دخولنا إلى الفصول، ننتظر من دون حماس أن ننتهي من ذلك الواجب، لكن ما إن يرتفع العلم في السماء وتهتز أطرافه حتى نرتجف، وتشملنا هزة شعور بقدسية الوطن. لقد غرست فينا المدرسة حب ذلك العلم الذي يكرم لإنسان عند موته بأن يلفوا به جثمانه، كأمنا دثروه بوطنه وبذكريات بالده وحبها. وهو العلم الذي كتب عنه صالح جاهين: ” كل نجمة في العلم، وكل لون، غزلتهم، نسجتهم، صبغتهم، نور من عنيك، الله عليك”.
وقد توفي في الأول من مايو جندي مصري بسيط هو محمد أفندي العباسي عن عمر ناهز اثنين وسبعين سنة، كان أول من رفع العلم على الضفة الشرقية لقناة السويس في حرب أكتوبر 1973.
ولد العباسي بمدينة القرين بمحافظة الشرقية، وهي مدينة باسلة عرفت بمقاومة أهلها لمعسكرات الاحتلال الانجليزي، وحصل فيها على الشهادة الاعدادية، والتحق بالجيش، فأصبح جنديا في سلاح المشاة بإحدى الكتائب في مدينة الاسماعيلية، وقضى ست سنوات في الجيش من يونيو 1967 حتى حرب أكتوبر، وكان مع الاخرين كان يترقب لحظة العبور والتحرير، وقال عنها إنها ” اللحظة التي طال انتظارها” بعد سنوات من التدريب المكثف، وعندما حانت ساعة الصفر كان العباسي في طليعة المتقدمين إلي إحدى الدشم الحصينة بخط بارليف.
وعندما تمكن المصريون من تلك النقطة العسكرية هتف العباسي بفرحة غامرة يخاطب قائد الكتيبة: ” مبروك.. ألف مبروك”، فرد عليه: ” مبروك يا عباسي وارفع علم مصر يا بطل”، فقام بإنزال العلم الاسرائيلي ورفع علم مصر ليرفرف فوق أول نقطة مصرية يتم تحريرها في حرب أكتوبر. وقد شيع المئات من أبناء مدينة القرين جنازة العباسي وقد لف نعشه بالعلم المصري الذي رفعه عاليا من قبل
أبطال كثيرون في مصر، وفي شعبنا، يرفعون الأمل ويغرزونه عاليا، بعضهم أحياء وبعضهم شهداء مثل النقيب مصطفى محمد شعبان شهيد عملية العريش الإرهابية في 25 يونيو وكان معه ستة جنود سقطوا شهداء منهم هشام محمود ومصطفى عدلي وآخرون. وقد تقدم النقيب مصطفى وهاجم الإرهابي المفخخ والسيارة التي معه بشجاعة منقطعة النظير ليوقف التفجير في منطقة الرفاعي. ال يكف أبناء الوطن عن ري بالدهم بدمائهم، وال يكفون عن فتح أبواب المستقبل.
ويقول صالح عيسى في كتابه المهم والجميل” هوامش المقريزي” أنه في أثناء ثورة 19 مات الكثيرون كي ال يسقط علم مصر في التراب كان من بينهم طلبة صغار وشبان ومتشردون ال مهنة لهم، ويروى الأستاذ العقاد في كتابه عن سعد زغلول أن ثالثة عشر مصريا قد تبدلوا على علم مصر، يسقط الواحد منهم شهيدا وهو يحمل العلم، فيحل محله آخر يتقدم ليحمل العلم من دون لحظة خوف أو تردد. ويقول صالح عيسى – نقال عن الدكتور على ابراهيم باشا – أنه في أثناء ثورة 19 حملت سيارة الإسعاف الى قصر العيني صبيا في الخامسة عشرة من عمره، وكان الصبي كما وصفه دكتور على ابراهيم ال يبدو طالبا أو صانعا، وعندما سأله الطبيب عن مهنته أجابه ببساطة: “أنا متشرد”، فابتسم له الطبيب وقال له: “وماله .. لكن مصري، ووطني”.
حول المقال:
المقال ضمن سلسلة “كراسات التحالف” للأدبيات الإليكترونية الصادرة عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، والتي تحتوي على مقالات أدبية وسياسية بقلم الكاتب الدكتور أحمد الخميسي.
و”كراسات التحالف” هي سلسلة من الأدبيات الإلكترونية، تصدر عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي.
وتحتوي نسخة “كراسات التحالف” الحالية على بروفايلات ورسائل شكر وتقدير لعدد من السياسيين والفاعلين في المجتمع وآخرين فارقوا الحياة بعد نضالهم من أجل حياة أفضل.
وشملت الكراسات بروفايلات عن الشهيدة الراحلة شيماء الصباغ، والتي استشهدت بالقرب من ميدان التحرير في الذكرى الرابعة للثورة عام 2015 أثناء إحياء حزب التحالف الشعبي وقفة بالشموع والورود.
أيضا شملت الكراسة بروفايل عن “طبيب الغلابة” الراحل الدكتور محمد مشالي، وأيضا الدكتورة منى مينا عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا لدورها الكبير في مواجهة فيروس كورونا والتوعية بمخاطر العدوى، والدكتور الكبير محمد غنيم.