د. أحمد الخميسي يكتب عن “أبطال الصمت”: حرفة المصريـيـن (كراسات التحالف)
أبطالنا كثيرون وحياتنا اليومية عامرة بهم، لكن البطولة المصرية تمتاز عن غيرها بأنها وثيقة الصلة بالإيمان العميق والتفاؤل والسخرية اللاذعة من كل خطر، والثقة في أن مصر محمية من السماء، مذكورة في القرآن الكريم، أو كما قال الأنبا مكاريوس: “كل البلدان في يد الله، أما مصر فإنها في قلبه”.
انظر في ظل وباء كورونا كمية النكت والأغنيات الساخرة التي تخفي الإيمان بأن مصر لن تصاب بسوء، وسوف تندهش حين تسمع أحدهم يقول لصديقه: “العالم كله يكرر أننا على ما يبدو سنموت قريبا وأنت جالس هنا تضحك؟”. فيجيبه الآخر:” وهل تريدني أن أموت وعلى وجهي تكشيرة؟”! هذا المزيج العجيب من الإيمان والقدرة على الضحك هو ما تمتاز به بطولة المصريين عن بطولات الشعوب الأخرى.
وعندما أغرق المطر شوارع القاهرة كان بعض الشباب يجوب الشوارع بسيارته في منتصف الليل لتوصيل الناس التي لم تجد وسيلة مواصلات. وقام أحد المطاعم في السيدة زينب بالإعلان عن يوم طعام مجانا، بينما عرض فندق في شارع شريف كل حجراته بالمجان لمن اضطرتهم السيول وتوقف القطارات الى المبيت في الشارع. كل أولئك أبطال يمارسون البطولة: “كعمل يومي لا فخر فيه ولا ادعاء”.
وقد سجل الأديب محمد ناجي صورة أدبية نادرة من حرب أكتوبر لفلاحة مصرية مجهولة ظلت واقفة بجوار كوبري بسيط في قرية جنيفة على الطريق بين الاسماعيلية والسويس تتابع ببصرها الطائرات الاسرائيلية بينما كان الجنود المصريون ينقلون زملاءهم الجرحى إلى تحت الكوبري، وكانت كلما أقبلوا بجندي جريح تمزق قطعة من جلبابها تضمد بها جراحه حتى لم يبق مزقة على بدنها فمكثت عارية تحت السماء تهتف “الله أكبر”. أي بطولة وأي سحر وأي جمال في هذه المرأة؟ بطولة بلا ادعاء ولا فخر.
وفي ظل وباء كورونا أشارت الصحف في 26 مارس 2020 إلى إصابة ممرضة في مستشفى جامعة المنصورة الرئيسي بـ كورونا ونقلها للعزل والعلاج، وقالت زميلة لها: “قعدنا جميعا نبكي لحظة أن عرفنا أنها مصابة بـ الكورونا، لكننا قررنا أن نغلق القسم الذي أصيبت فيه وأن نعزل أنفسنا مع المرضى لنواصل العلاج وتركيب المحاليل، ومارسنا عملنا بشكل عادي”. تأمل عبارة “مارسنا عملنا بشكل عادي” والشعور العميق بالمسئولية الذي يختفي وراءها. في مايو 2020 توفيت في صمت أيضا الممرضة عطيات محمد عربود من مستشفى صدر دمنهور المخصصة لعزل الحالات المشتبه في أنها كورونا.
هي بطولات يومية لا تتصدر شاشات التلفزيون ولا يحصد أصحابها جوائز، بطولات تتم بتواضع وإنكار ذات “كعمل يومي لا فخر فيه ولا ادعاء”. وسوف نرى ونلمس ونحس نهر تلك البطولات يجري في تفاصيل حياتنا اليومية، بطولة مصرية تمتاز عن غيرها بالتفاؤل والسخرية اللاذعة من كل خطر والإيمان العميق بأن مصر محمية من السماء. يحق لي، ولمن أراد، أن يفخر بأنه ينتمي لشعب ساخر، مقاوم، هزم كل المصاعب والكوارث في تاريخ طويل ضاحك، وقوي، ومبدع.
حول المقال:
المقال ضمن سلسلة “كراسات التحالف” للأدبيات الإليكترونية الصادرة عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، والتي تحتوي على مقالات أدبية وسياسية بقلم الكاتب الدكتور أحمد الخميسي.
و”كراسات التحالف” هي سلسلة من الأدبيات الإلكترونية، تصدر عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي.
وتحتوي نسخة “كراسات التحالف” الحالية على بروفايلات ورسائل شكر وتقدير لعدد من السياسيين والفاعلين في المجتمع وآخرين فارقوا الحياة بعد نضالهم من أجل حياة أفضل.
وشملت الكراسات بروفايلات عن الشهيدة الراحلة شيماء الصباغ، والتي استشهدت بالقرب من ميدان التحرير في الذكرى الرابعة للثورة عام 2015 أثناء إحياء حزب التحالف الشعبي وقفة بالشموع والورود.
أيضا شملت الكراسة بروفايل عن “طبيب الغلابة” الراحل الدكتور محمد مشالي، وأيضا الدكتورة منى مينا عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا لدورها الكبير في مواجهة فيروس كورونا والتوعية بمخاطر العدوى، والدكتور الكبير محمد غنيم.