(خمس ورقات) قصة قصيرة للكاتب محمد العريان 

لَعَنَ نفسَه: إيه يعني لو كنت ركبت تاكسي بـ 100 جنيه، ورقة واحدة، وانتَ معاك 245. يا بخيل، كنت رِكِبت الدَّائري وزمانك وِصِلت دلوقتي الهرم. 

كانت السيارة الأجرة، تزحف نحو ميدان العباسية مُتَّجِهة إلى السيدة عائشة، السائق بجواره يتكلَّم في الهاتف ويضحك، يخفض صوت الموسيقى، ينظر من شبَّاك السيارة على الطريق الخالي بالجهة الأخرى: “هاشوفك لو عَدِّيت بعد نادي السِّكَّة”، يسأل: “الطريق سالك؟”. 

ينتبه للسائق، وينتظران إجابة زميله الذي رأى زِحامَ الطريق الذي يسيرون عليه، الغيب الذي لا يعرفانه، عَينُ السائق مُعلَّقَة في الفراغ، وفَمُه مفتوحٌ، ساكِنٌ كتمثال، يحاول أن يقرأ الإجابة على وَجهِه، يَفشَلُ. يتحسَّس جَيبَه المُنتَفِخَ، ينقل بصرَه بين الانتفاخ وبين وجه السائق الذي يُنهي المُكالَمة، يسبُّ زميلَه -الذي يظهر على الجانب الآخر- بالضَّغطِ على آلة التنبيه، يردُّ عليه السِّبابَ وهما يرفعان أيديهما اليُسرَيَيْن للتحيَّة، مُبتَسِمَيْن. 

ينتهز الفرصة ويسأل السائق: “الطريق هَيِسْلَك؟”. 

دون أن ينظر إليه قال: “الطريق واقف لحَدّ السيدة عائشة”. 

 يتحسَّر ويتحسَّس جيبه بطرف إصبعه، يلوم نفسه، يفكِّر كيف يخرج من موقف السيارات الذي لا ينتهي؟، كان يُخطِّط أن يشتري كباب وكفتة وحلويَّات ويسهر اليومَ مع زوجته، طلب منها في الهاتف أن ترتدي قميصَ النَّوم الأحمر، تبدو أجملَ في اللَّون الأحمر اللامع، الأموال في جيبه تُشعِرُه بالثِّقَة والقُوَّة، يَزفرُ، تخرج حسابات النقود اليومية: أنا مَلِكٌ، أَمرُه مُطاعٌ. ينظر إلى السائق، يعلم أنه يَحتَقِرُه هو وكُلَّ الرُّكَّاب، الرُّكَّاب نقودٌ تسير على الأسفلت في نظر السائقين، وكل مَهمَّتِهم أن يلتقطوها، يُردِّد في نفسه: أنا 3 جنيه، يبتسم في سخرية. أصرَّ أن يجلس بجوار السَّائِق ويدفع أُجرَةَ شَخصَيْن، لا يريد أن يُزعِجَه أَحدٌ، يملأ الحَيِّزَ كطاووس مُغطًّى بالأوراق النقدية، يتباهى، أَنفُه مُرتَفعٌ، وفي عينيه ثِقَةُ الجيوب المُمتَلِئَة بالبنكنوت المُلوَّن، اليوم يستحقُّ، انتظره لمُدَّة عامين. اليوم يَستحقُّ أن ينعزل عن الحواديت المُمِلَّة للرُّكَّاب. 

فكَّر أن ينزل ويركب سيَّارة أُجرَة للدَّائري، تطوَّرَت الفكرة كتجمُّعِ حَبَّات العَرَق أسفلَ ظَهرِه، يتلفَّت حوله، يرى اللافتة الزَّرقاء عليها سَهمٌ: “الطَّريق الدَّائِري”، تُطارِده كقمر يخرج من بين السُّحُب، حسم أمرَه وأَمسَكَ مقبض الباب، وتَحسَّس جيبَه المُنتَفِخ، بدأت السيارات تتحرَّك، يضغط السائق على البنزين بقوَّةٍ كأنَّه سيطير، يهتزُّ الرُّكَّابُ، وتسقط أشياؤهم، ومعها فكرَةُ نزوله، يتردَّد، ومع كل مِترٍ جديد يبتعد الشارع المُؤدِّي للدَّائري، تذوب خُطَّةُ الهروب من الزِّحام كقطعة زُبدٍ على النار، يزداد عَرَقُه داخل العُلبَة الصفيح التي يركبها، ومع كل تَوقُّفٍ للسيَّارة يَلعَنُ نفسَه. 

يتحسَّس جَيبَه برِفقٍ، يغرق في التفاصيل لتُخرِجَه من عالَمِه الخانق بالرُّطوبة، يتخيَّل زوجَتَه تقف في منتصف الصالة تبتسم في لَهفَةٍ وهو يحمل الأكياس الكثيرة، تقول: “نفسي أشوفهم”، يرفض، تركض نحوه وتمدُّ يَدَها على جيبه، يهرب، يتصنَّع الجدِّيَّة، يقول: العيال هتصحى والليلة هتبوظ، تتصنَّع الخصامَ في دلالٍ وتُعطيه ظَهرَها، يقبلها في رَقَبتِها برِفقٍ، تُداعِبُ أنفاسُه جِلدَهَا فتقشعر، تلتَفِتُ، يقول: “اصبُري… أنا لسَّه داخل”. 

تَردُّ: “مش قادرة أصبر”. 

ينظر في عينيها ويمسح جَسدَها كماكينة تصوير الأوراق، في جوع، كأنه لم يلمسها منذ سنوات: “وأنا كمان”. 

تتلوَّى، هذه فرصتها لتَنتَصِر عليه. 

تتوقَّف السيارة فجأةً، يقول السائق: “الآخر يا حضرات”. يعطي السائق نظرةً مُتعالِيَةً وينزل، يستقبله ميدان السيدة عائشة بالأغاني، وأصوات الباعة، وألوان الفاكهة، ولعب الأطفال، ومئات البَشَر المُنهَكين، يبحثون عن مقعدٍ في سيَّارات الأجرة، يتحرَّكون في كُتَلٍ كالنَّمل، يسأل أحدُهُم سائِقًا ما عن وجهته، وما أن يركب تندفع كُتلَةٌ بشريَّةٌ نحو السيارة، جميعهم يسألون عن طريقها. يتفاداهم وهو يتحرَّك، يضع يَدَه في جيبه ليشعر بمَلمَسِ الأوراق، يستمدُّ منها قُوَّةَ تَحمُّلِ مشوار العودة للمنزل، يشعر بشهوته تتحرَّك، جوعه لالتصاق جسده بجسدٍ عارٍ يتضاعف، يتأكَّد أن لا أحد يلاحظه، الميادين مثل أرض الحَشْرِ؛ كُلُّ واحدٍ مشغول عن الآخرين، يُذكِّر نفسه: “لا أَحَدَ يُراقِبُكَ في الميدان”. 

شهوة الشِّراء تقتحم خلايا عَقلِه: “العنب ده حلو. لو المانجة كويِّسَة مُمكِن اشتري 3 كيلو. الكاب ده يحمي وليد من الشمس وهو بيلعب في الشارع”. يدخل مَوقِفَ السيَّارات، يده اليسرى في جيبه، المكان المُخصَّص لسيَّارات الهرم مُغلَقٌ بالبَشَر، أغلبهم رجالٌ عائِدون من العمل، ولا سيَّارات، يلوم نفسه. تظهر في الأفق سيَّارَةٌ، كنسمة صيف، يتحرَّك ببُطءٍ، تندفع السَّيَّارةُ نحو الرُّكَّاب، كأنها ستُطعِمُهم للأسفَلت، الرُّكَّاب يتحدَّون السَّائِقَ، ولا يتركون منتصف الطريق، يعلمون أنه سيتوقَّف. يخشى أن يسقط كَنزُه في زحام التَّدافُع، يتراجع مذعورًا وتشتدُّ قَبضَتُه على الأوراق النقدية. في الأوقات العاديَّةِ ينتظر الميكروباص عند المَطبِّ أو الحُفرَة التي تتوقَّف عندها إجباريًّا، وبحركة واحدة يفتح الباب ويكون في الداخل، لم يكبر بَعدُ وتتيبَّس مَفاصِلُه، شاب في منتصف الثلاثينيات، يتمتَّع بلياقة معقولة، وخبرة في الركوب تُجنِّبُه الرَّكضَ خلف سيارات الأجرة والتَّدافُع ومُزاحَمَةَ الزبائن للحصول على كرسيٍّ، أمَّا اليوم فمعه كنزٌ سيُحافِظُ عليه، حتى لو اضطرَّ للعودة إلى المنزل على قدميه. 

يتابع الرُّكابَ بكبرياء، يخرج من موقف السيارات، يبحث عن تاكسي، سيُكلِّفُه نصفَ ورَقَة، فقد قطع نصف المسافة إلى منزله تقريبًا: “وفَّر مجهودَكَ ومَتَّع نَفسَك، إيه يعني؟ كأنهم 244 ورقة، اشتري نفسك بفلوسك يا أخي”. 

يقف كراكِبِ تاكسي قديمٍ، يبتعد عن كُتَلِ البشر، يده في جيبه، يشير للسيارة من بعيد وينتظرها تقترب منه، يميل بجِذعِه: “الهرم؟”، تهرب أول سيارة كأنه ذاهب للجحيم، يراه آخر، يقترب منه ويَضغَطُ بلُطفٍ على آلة التنبيه، يُكرِّر: “الهرم؟”، تَفِرُّ السيارة الثانية، وتَفِرُّ أخرى مثلهما، يسأل سائِقَ السَّيَّارة الرَّابِعَة: “ليه مش عايزين تروحوا الهرم؟”. 

“زحمة يا بيه، المشوار هياخد ساعة”، تتوقَّف الكلمات لَحظَةً، السائِقُ متردِّدًا: “هتدفع كام؟”. 

يعلم أن السائق سيزيد عليه، يردُّ: “40 جنيهًا”، يُظهِرُ السَّائِقُ جُزءًا من أسنانه العُليا ساخِرًا، ويَرفَعُ السِّعر: “70 جنيهًا”… 

“ليه يا أسطى، بُصّ.. علشان الزحمة هادِّيلَك 50 جنيهًا”، يَهزُّ السَّائقُ سبَّابَتَه، ويُنهي المُساوَمَة، ويَنطَلِق. 

يتحرَّك إلى الأمام أكثر. ترفض السيَّاراتُ نَقلَه إلى الهرم، يشعر بيده اليُسرَى تَعرَق، خاف من بَلَلِ الأوراق، لن يتحمَّلَ فُقدانَ وَرقَةٍ واحِدَة. فجأة يظهر المَلاكُ: عُلبَة صفيحٍ فارِغَة، مُحرِّكها يَهزُّ جَسدَ السائق، ويُصدِرُ صوتًا مُفزِعًا: “جيزة، جيزة، يَلَّا جيزة”. 

يقفز داخل السيارة مُتخَلِّيًا عن وَقاره كراكِبِ تاكسي، يلقي بِنَفسِه على أقرب مقعد، لا وَقتَ لاختيار مقعده المُفضَّل، يرى دستةً من الأجساد محشورةً بالباب، يلاحظ حبَّاتِ العَرَق على الجِباه، وخيوطَ المِلحِ تُزيِّنُ مَلابِسَهم تحت الإِبِط، وأسفَلَ الرَّقبَة، ملامحهم أَذابَتها الشَّمسُ وعَجَنَتها الرُّطوبَةُ؛ فتَشابَهَت، هَدَفُهم واحدٌ: مِقعَدٌ داخل كُتلَةِ الصَّفيح التي لا تتوقَّف عن الاهتزاز، ومُحَرِّكُها يَنفُثُ السُّخونَةَ كتَنِّينٍ غاضِب. 

يتذكَّر جيبَه المُنتَفِخ، يتحسَّسُه كمَذعورٍ، يتنفَّس باطمِئنانٍ، يتخلَّص من دَفعِ الأُجرَةِ بإعطائها لِمَن بجواره، يغيب في أحلامه الَّتي تُبدِّدُ زِحامَ الطَّريق، يتخيَّل نظراتِ مَن اقترضَ منهم وهو يُسدِّد ديونَه كما وَعَدَهم، إنسانٌ نَبيلٌ مُلتَزِم بمواعيده، مساحة جديدة لسُمعَتِه، تَمنَحُه فرصةً للاقتراض مَرَّةً أخرى وقتَ الحاجَة. خَصَمَ الدُّيونَ من الأوراق، سيتبقَّى الكثيرُ، وَعَدَ زوجته وطِفلَيْه بملابِسَ جديدة، يُصلِحُ بابَ الثَّلاجَة وشُبَّاك غرفة النوم، ويشتري حذاءً جديدًا، يشتري الفُستُقَ المقشَّر الذي تَمنَّته زَوجتُه رمضانَ الماضي، مفاجأته لها؛ تعبيرًا عن الحُبِّ، هل يُحبُّها فعلًا؟، يقول في نفسه: “لو تبَطَّل نَكَد”. 

في ميدان الجيزة يجد سيَّارَة ميكروباص بسهولة مع اقتراب منتصف الليل، يتجنَّب الجلوسَ بجوار السَّائق، يحتاج إلى بعض هَواء السيارة المُسرِعَة، يجلس على طرف الباب المفتوح دائمًا، يتحمَّل نزولَ وصعود الرُّكَّاب مُقابِلَ نَسَمات الهواء، يتَّصِلُ بزوجَتِه: “أنا قَرَّبت أَوصَل، الطريق كان زحمة جدًّا، عايزة حاجة؟”. تطلب دون أن تمنعها الحسابات، يحاول أن يَحفظ كُلَّ ما طَلَبَته، يستقبل قُبلَةً تنسج من جديد خلاياه المُمزَّقة، تُعيد له رُوحَه أكثرَ من الهواء البارد الذي يُداعِبُ وَجهَه. 

أخيرًا وصل إلى المحطَّة قبل النهائية، مواصلة داخلية أخيرة ويُصبِحُ بالقُرب من منزله، اليوم كان طويلًا جِدًّا، أنهى عَملَه في مدينة نصر السَّاعة السَّابِعَة، توجَّه إلى مصر الجديدة ليحصل على 25 ألف جنيه، أكبر جمعيَّة يشترك فيها، قَيْدٌ لمدَّة 4 سنوات وشهرين، 500 جنيه شهريًّا يقتطعها من راتبه، منذ عامَيْن وهو يحلم بهذا اليوم، صُعِقَ حينما استقبلته السَّيِّدة بالأموال على منضدَةٍ صغيرة بغرفة الضيوف، تَضَعُهُم بلا مُبالاة كأنها لا شيء، كأنها كلَّ يَومٍ ترى 25 ألف جنيه، صُعِقَ مَرَّةً أخرى؛ فكُلُّ الأموال من فئة الـ 100 جنيه، 245 ورقة من البداية قرَّر ألَّا يحمل حقيبَةً: “جيبي أكثر أمانًا، قطعة من لحمي، يمكن أن يخطف أحدٌ الحقيبة، يمكن أن تُنتَزَعَ منِّي، أمَّا جيبي فهو آمِن”. لا يعرف كيف حَشَرَ الوَرَقَ في جيبه!، كانت السيدة تضحك وتَعرِضُ حقيبةً جلديَّةً صغيرة، ينظر إليها بتَوَتُّرٍ ويرفض، يُفرِغُ ما في جيبه الأيسر ويقول: “كده أحسن، الطريق طويل، ووِلاد الحرام كتير”، يتصبَّب عرقًا، قسمهم 3 رزم: رُزمتان بـ 150 ورقة بجوار بعضها، تملأ أسفَلَ الجَيبِ، والأخيرة 95 ورقة فوقها، كأنها عُلَبُ سجائر، يَطرُق على بيتهم الجديد؛ يُطَمئِنُهم ويَطمَئِنُّ عليهم. 

على ناصية الشارع الرئيسي ينتظر سيَّارَةً غير مُرخَّصَة تسير في الطُّرُقات الوَعرة، حوله قليلٌ من البشر، عائِدون من سُخرَةِ العمل اليوميِّ، رطوبة أغسطس وشقاء اليوم جَعلَهم كعبيدِ مَناجِمِ الفَحم، يختلط على وجوههم العَرَقُ والتُّرابُ وعوادِمُ السَّيَّارات، عيونهم زائِغَة، حَمراءُ، تَشتَهي النَّوم، يقفون كالأصنام، يلتفتون فقط في اتِّجاه أصوات أبواق السَّيَّارات وأضوائها، ناصية الشارع مُظلِمَةٌ قليلًا، أغلَقَت المحلَّاتُ أبوابَها؛ فتَرَكَت الشَّارِعَ للأشباح، في النهار لا يمكن أن تسير عِدَّةَ خُطواتٍ في هذا الشارع دون أن تَصطَدِمَ، أو تحاول أن تتفادى الاصطدامَ بِشَخصٍ ما يَمرُّ، الآن الشارع فارغٌ إلَّا من بائع تينٍ شوكيٍّ يجلس على الرصيف أسفلَ عامود إنارَةٍ، تذكَّر أنَّ آخِرَ وَجبَةٍ تَناوَلَها كانت مع أذان الظُّهر، بدأ الجوعُ يَطعَنُ مَعِدَتَه، ينظر إلى قلب الشارع، نَفقٌ مُظلِمٌ، أعمِدَةُ الإنارة التي تعمل لا تكفي اتِّساعَ الشَّارع، تمنح الأسفلتَ الأسودَ بُقَعًا باهِتةً من إضاءةٍ صَفراءَ بسبب العَوادِمِ المُتراكِمَة على سطح الكشَّافات، الجوع يُسَيطِرُ على مَعِدَتِه وتفكيره، يشعر بغَثيانٍ مُفاجِئٍ، يُحدِّث نفسَه: “البيت قريب.. اصبُر”، لا تُسَكِّنْ كلماتُه الألمَ، يَشمُّ رائحة التين الشوكي! مُختَلِطةً برائحة أَرغِفَةٍ يحملها أحدُ العبيد بجواره، يلاحِظُه بائِعُ التين، يرش قليلا من الماء على بضاعته، يقترب من العَربَة، يقول: 

–      بكام؟ 

–      من غير فلوس يا بيه… 

ينظر إليه في غضب، لن يتحمَّل مُساوَمَة على جوعه، يُنهي الحديث: “اقطَعْ”. 

يغزر البائِعُ الطَّرفَ المُدبَّبَ للسِّكِّينة الصغيرة في حبَّة التِّين، يَرفَعُها بطريقةٍ بهلوانيَّة، يُمرِّر النَّصلَ على الرأس والذَّيل، يشقُّ جِلدَها برفقٍ، ويَفتَحُها بأصابعه؛ فتَخرُجُ: جوهرَةً صفراءَ تَسرُّ الجائِعين، يُقدِّمها بدون لَمس. يُمسِكُ اللَّحمَ بأطراف أصابعه، ويَلتَهِمُها، يغمض عينيه، يستمتع، يُبدِّدُ صوتُ البائِعِ السُّكونَ كَبدرٍ يَطردُ الظَّلامَ: “أبو حلاوة يا تين.. بالصَّلاة على النبي والله”، وقبل أن يفيق من أَثَرِ الأولى، يجد الثانية بالقُربِ من أصابعه، تختفي البيوتُ والأسفلت، ويتحوَّل الفَراغُ إلى بُستانٍ من الفواكه، تَختَرِقُ الرَّائِحَةُ جِلدَه، يَسكُن الطَّعمُ خلاياه؛ فيَطردُ سيَّاراتِ الأُجرَة، والسَّائِقين، وزَميلَه العصفورة، ومُديرَه الذي يُشبِهُ الضُّفدَع. لا يُلاحِظُ الحركةَ حولَه، ينسى الأوراق التي في جَيبِه، وطَلَباتِ زَوجَتِه، والعَشاءَ، وجوعَ جَسَدِه لامرَأةٍ. 

يَقترِبُ 3 شبان من البائع، يُردِّد: “يا رب يا مُسهِّل.. بالصَّلاةُ على النَّبي”، ينظرون إليه، غارِقًا في مَلَكوتِه، نِصفَ واعٍ، يُلاحِظُهم، يبدو عليهم تأثيرُ المُخدِّرات، بِخِبرَتِه يعرف أنهم دَخَّنوا حشيشًا وبعضَ الحبوب المُخدِّرة، يُقابِلُ مِثلَهم كُلَّ يوم، بينهم طِفلٌ، تقريبًا في العاشرة من العُمرِ، يتفحَّصُهُم البائِعُ ويقول: “بجنيه الواحدة”، يتردَّدون، يتوقَّفُ عن المَضغِ، يُناوِلُه البائِعُ واحِدَةً أخرى يَلوكُها بلا مُتعَة. 

يُشيرُ للبائِع بِيَدِه كي يتوقَّف: “عايز كام؟”. 

يُراقِبُهم. قائدهم يَحمِلُ علامَةَ مَعرَكةٍ حديثَةٍ بجوارِ أُذُنِه اليُمنَى، جُرحٌ لم يَلتَئِم، خَيطٌ من الدَّم مُتجَلِّطٌ يحمي الجِلدَ، ملامحه تَدلُّ على سِنِّه الصغير، يرتدي سِلسلَةً صفراءَ فوق ملابسه، وخاتَمًا فضِّيًّا على شكل جُمجُمَة، والآخران تابِعان، يَضحَكون على هيئة بائِعِ التِّين الصَّعيدي، يُقرِّرُ أن يَترُكَهم مع البائع ويهرب، لا داعِيَ للشَّهامَة، يُبرِّرُ مَوقِفَه لِضَميرِه: “الوَقتُ مُتأخِّر، ومعي نقودٌ يجب أن تَصِلَ إلى المَنزِلِ بأمان”. ينتظرُ؛ حتى لا يَظهَرَ كخائِفٍ منهم، يتردَّد في إخراج النُّقودِ الفَكَّة من جيبه الأيمن، لا يُريدُ ظهورًا لِهاتِفِه المَحمول؛ “كلُّ مَكشوفٍ مَطمَعٌ”. 

يُلاحِظُ البائِعُ تَردُّدَه، تَشتَدُّ قَبضَةُ يَدِه على السِّكِّين الصَّغير، يتحرَّك بِتَوتُّر، يَختارُ موقِعًا يراهم فيه جميعًا، يَتحسَّسُ حَصيلةَ اليَومِ في جَيبِ الجِلبابِ الواسِع، يَنظُرُ بتحَدٍ: “خمس جنيهات يا بيه”. يضحكون بصَخَبٍ، يشخرون بلا سَبَب، السَّوائِلُ تهرب من مَخارِجِ وجوهِهم، رَذاذُ ريقِهم يَتَناثرُ من أفواههم، حتى أنوفهم لا تستطيع مَنعَ المُخاط، يَنِزُّ جُرحٌ في يَدِ الطِّفلِ قَيْحًا، يَتماسَكُ، لا يَجِبُ أن يَشمَئِزَّ منهم، يرسم نظراتِ الحَسمِ والجِدِّيَّة، يتصرَّفُ بطبيعيَّةٍ كأنَّ حياتَه مَليئَةٌ بِهِم، يَضَعُ يده في جيبه الأيسر يحاول أن يُخرِجَ ورقةً واحدة من الـ 245، هي التي ستُنقِذُه، لن يَفقِدَ هاتِفَه بسبب 3 بلطجية، أجسادُهم نَحيفَة، أَضخَمُهُم أَقلُّ منه، لكنَّه يَعلَمُ أنَّ الفَوزَ بالمعارك لا يَحسِمُها الجَسَدُ، رأى مئات المُشاجرات، العَضلاتُ والطُّول -أو حتَّى السِّلاح- لا تَحسِمُها، الثَّباتُ هو السِّلاحُ الأَمضَى، الخَوفُ يعميكَ، لا ترى من أين تأتي الضَّربات، وما عددُ الأعداء، ولا أين المَخرَج، عَضلاتُكَ تتحوَّلُ إلى لَحمِ خروفٍ يَتلقَّى -مُستَكينًا- ساطورَ الجَزَّار وسط مُشاهَدَةِ الجمهور، مَن لا يخاف يُفكِّر ويرى المَكانَ المُناسِب، يتفادى الضرَّبات، ويُوجِّه غيرَها، الشَّجاعَةُ تَجعلُكَ ثابِتًا، الشجاعة هي النَّجاة. 

يتنمَّرون للبائع : “هناخد 3 بجنيه واحد”… 

يَرفُضُ، يَعلَمُ أنها البداية فقط، سينتهي اليومُ بمُشاجَرَةٍ، ويَفرُّون قبل أن يدفعوا، يَردُّ وهو يتحرَّكُ بحِدَّة: “لا.. مفيش تين للبيع.. أنا مروَّح”، يَضَعُ السِّكِّين الصَّغيرَ حاجِزًا بينهم وبينه، يَبتَعِدون عنه، يَصطَدِمُ أحدُهُم به في اللحظة التي يُخرج فيها الوَرقَةَ من الرُّزمَة الأخيرة التي حشرها في جيبه، تَظهَرُ كُتلَةُ الأوراق النقدية، يراها البائِعُ ويرُكزِّ نَظَرَه عليها، يلاحظون التَّوتُّرَ على وجه البائع، يلتَفِتون إليه، يَرتَبِكُ ويضَعُها في جيبه بسرعة، لكنهم رَأَوها، تَتَّسِعُ حَدَقاتُ العيون، تَنزَلِقُ حَبَّةُ عَرَقٍ من أسفل شَعرِه على رَقَبتِه، ومعها شَجاعَتُه المُصطَنَعة، يَقشَعِرُّ بَدَنُه، يُفكِّر في سُرعَةٍ، لا بُدَّ أن يخرج من الموقف بطريقَةٍ تَجعَلُهم يَخشَوْنَه، الصَّمتُ نَفَخَ في أُذُنِ الشَّارِع؛ فنام، بعضُ العَبيدِ يَئِسوا وقَرَّروا السَّيرَ على أقدامهم، لم يَتبَقَّ إلَّا القليل، أَغلَبُهم يحملون أشياءَ ثَقيلةً، أو لا يستطيعون قَطْعَ المسافَةِ سَيرًا، يحاول البائِعُ أن يهربَ، يعرف أنه لن يرى الخمسة جُنَيهات، الآن مَهمَّتُه الحفاظُ على جَسَدِه، يقول في نفسه: “السِّلاح هَيِطلَع”. 

يُقرِّر مُواجَهَتَهم، لعلَّهم يخافون من جرأته يُخرِجُ الرُّزمَةَ الأخيرة مرَّةً أخرى، يَرفَعُ صوته وهو يُظهِرُ الأموالَ عالِيَةً: “إيه يا جدعان! هَتِقرِفونا على آخر الليل ليه؟”. 

تجمَّدوا، 8 عيون مُعلَّقَة على رُزمَة الأموال، 95 ورقة لامِعَة، اندفَعَت أحلامُهُم كَشُهُبٍ، تتحرَّك الصُّوَرُ والمَشاعِرُ داخِلَ عقولهم، لا يسمعونه، يرفع صوتَه أكثرَ، يَسبُّ ويَشخُر، يُمثِّل أنه يَكشِفُ عن الجانب الآخر من شخصيَّتِه العاديَّة. 

يتراجع بائع التين: “حَدّ الله، هات الخمسة جنيه حَقّ التين”. 

يَنتظِرُ الثَّلاثةُ أن يختفي غريمٌ، يَضَعُ البائِعُ كيسَ نُقودِه ببساطَةٍ على سَطحِ عَرَبةِ التِّين، حصيلة اليوم، لن يَلتَفِتوا إليه، عيونهم تتنقَّل بين رُزمَة البنكنوت والكيس الشَّفَّاف المَليء بالـ “الفَكَّة”، يأخذ البائع خمسةَ جُنيهاتٍ ويُعطيه الباقي. 

يَفِرُّ بعربة التِّين، يقول بصَوتٍ عالٍ وهو يَدفَعُ قَدَميْه للأمام: أنا عارف هُمَّا عايشين فين”، أضعف الإيمان، يُرضِي ضميره؛ رسالةٌ له أن يُسلِّمَ نُقودَه ويَخرُجَ حَيًّا، سَتَعثُرُ عليهم، وخلال ثوانٍ ابتلعه الظَّلامُ هو وعَرَبته. 

بعضُ العبيد يُتابِعونهم، لا يتحرَّكون، كأنَّهم يشاهدون فيلمًا ولا يُمكِنُهم التَّدخُّل، يُغادِرُ بعضُهُم رَغمَ حُمولَتِهم الثَّقيلة، تَزحَفُ أحذِيَتُهم على الأسفلت، يُجاهِدون، لا يريدون أن يكونوا كالأَشجارِ: يَرون المَذبَحَة ويلومون أَنفُسَهم في المنزل. أصبح كفريسَةٍ سَقَطَت في فَخِّ الذِّئاب، والأشجارُ شاهِدَة، يَستَعطِفُهم بعَينَيْه أن يُشاهِدوا جيِّدًا؛ رُبَّما يَحتاجُهم. 

الذِّئابُ تَقتَرِب، يحاصرونه، يَستَنِدُ بظَهره إلى عامود الإنارة، يَضَعُ الأموالَ في جَيبِه، يترقَّب إشهارَ الأسلِحَةِ البيضاء، سيُهدِّدونه ويجرحون يَدَه، ثُمَّ وَجهَه، وفي النِّهايَة سيطعنون أعلى فَخِذِه، لقد كان شَجرَةً من قبل، شاهَدَ عَشراتِ السَّرِقات بالإكراه، وسَمِعَ مِئاتِ الحكايات. 

كان مَرعوبًا؛ من خِبرَتِه حكايَتُه ستنتهي بقَتلِه، تَتداخَلُ ملامِحُهم كصُوَرٍ مَهزوزة، المَبلَغُ كبيرٌ، سيخافون من افتضاحِ أَمرِهم، “سيقتلونني”، خوفه يتحدَّث: “يَعلَمون أنني لن أَترُكَهم، سأُحرِّر مَحضرًا، وأرشو أُمَناء الشرطة، أو حتى أستعين ببلطجيَّةٍ آخرين، بفِطرَتِهم سيتأكَّدون أنني لن أَترُكَهم مع هذا المبلغ، سيتركونني جُثَّةً هامِدَة”. شريط حياتِه يَمُرُّ أمامَه، يتمسَّك بالحياة، يَبحَثُ عن مَخرَجٍ، هل يُساوِمُهم؟ 

“يُمكِنُهم أن يأخذوا الرُّزمَةَ التي خَرَجَت ويرحلوا، لن أُبلِغَ عنهم، وإذا رأيتُهم لن أَعرِفَهم، يَتركوني لأولادي”. يلوم نفسه: “يا ريتني رِكِبت تاكسي.. كُسُّم الـ 70 جنيه”. 

يقتربون، عَينُه تَدورُ، يُشاهِدُ العالم بحُزنِ الوَداع، يَنتَظِرُ الأسلحة، سيراها تَلمَعُ تحتَ ضوءِ عامودِ الإنارة، ستكونُ آخِرَ شَيءٍ يراه، نَصلٌ فِضِّيٌّ يَلمَعُ يَختَرِقُ جسَدَه، تَذَكَّر فجأةً الفُستُقَ وزَوجَتَه التي تَنتَظِرُه، تأخَّرَ إشهار الأسلحة، “مُمكِن؟”. 

يظهر الأَمَلُ كضَوءٍ باهِتٍ بَعيدٍ يُهَروِل، إنهم جاؤوا من الشَّارِع الرَّئيسي، يخافون من دَوريَّات الشُّرطة، لا يَحمِلون أسلِحَةً، يختفي اهتزازُ الصُّوَر، يقترب قائِدُهم، مُمسِكًا بطَرفِ السِّلسِلَة في فمه، لَدَيه جُرحٌ قديمٌ في رأسه، تظهر بدايَةُ النَّدبَةِ عند مَنبتِ الشَّعر، يبدو أنها ضربة “كَزْلَك”، أنفُه أَفطَسُ، وذَقنُه عريضٌ كأيِّ غَبيٍّ تقليديٍّ. 

يلوي شَفَتَيْه، وتخرج الكلمات من بين حَلَقات السلسلة: “بُصّ يا برِنْس.. إحنا محتاجين فلوس سَلَف، وإحنا ولاد منطقة واحدة، وعيب يعني أَروح استِلِف من برَّه واخويا معاه”. 

يتأكَّد أنَّهم لا يحملون أسلِحَةً، يضحك رفيقاه سُخريَةً، وهو يُفكِّر كدَجاجَةٍ تُحاوِلُ الإفلاتَ، يقول في تَردُّدٍ: “عايزين كام؟”. 

يَضغَطُ على السلسلة بضروسِه: “شوف انتَ.. قَلِّبْ نَفسَك واحنا راضيين”. 

يدور أحدُهم حول عامود الإنارة. “طيِّب وهَترَجَّعوا الفلوس إمتى؟”، يحاول أن يكسب وقتًا، لم يَيأَسْ بَعدُ من الأشجار التي تُراقِبُ في صَمتٍ؛ لعلَّ أحدَهم يَقتَرِب، سيُخبِرُه أنَّهم بلا أسلحة، يُمكِنُ أن يضرب الطِّفلَ والفتى الآخرَ ويهرب. 

تسقطُ السِّلسلَةُ من فمه وهو يضحك: “لمَّا اخُد الميراث هارَجَّعلَك الفلوس.. ماتِقلَقْش”. 

ينهار رفيقاه من الضحك، ويسقط خَلفَه الفتى على رُكبَتَيْه من الضحك، وفي اللحظة نفسها يُحاوِلُ أن يُقيِّدَ يَدَيْه خلفَ عامود الإنارة، كانت مَسكَتُه ضعيفةً، لكنَّها مُباغِتَة، يُحاوِلُ قائِدُهم أن يَضَعَ يَدَه في جيبه الأيسر، يُفلِتُ يَدَيه من القَيدِ الواهِن، يُمسِكُ رَقبةَ قائِدِهم، يَخنقُه في عُنفٍ، ينهضُ الفَتى خَلفَه ويَضرِبُه بِقَبضَتِه بجوار أُذُنِه، ويُمسِكُ الطِّفلُ قَدَمَيْه يُحاوِلُ أن يُسقِطَه على الأرض، يَظلُّ مُمسِكُا برَقَبَتِه، يرى وَجهَ طِفلَيْه، يَدفَعُه أمامَه: “هاخنُقَك وتموت يا ابن الوِسخَة، شَقَا عمري يا ولاد الكلب”، السِّبابُ يَمنَحُه شجاعَةً مُؤقَّتَة، تتماسَكُ خلاياه، ويَهتَزُّ أعداؤه. 

يسمع صوتَ شُبَّاكٍ يُفتَح، يرتَبِكون أكثرَ، يَدفَعُ غَريمَه، القائِدُ يَسقُطُ على الأرض، يَركُضُ، رغمَ أنَّ الطِّفلَ يُمسِكُ بإحدى قَدَمَيْه، يَسحَبُه أمتارًا معه، والفتى يُمسِكُ بمَلابِسِه، قائِدُهُم يَنهَضُ ووَجهُه مُحتَقِنٌ: “امسكوه ابن القَحبَة”. 

يُفلِتُ ملابِسَه وقَدَمَه ويَهربُ، لا يُصدِّق نفسَه أنَّه أَفلَتَ، الأدرينالين يُحرِّكُه، ظَلامُ الشَّارِع طَوْقُ نَجاةٍ، يستطيع أن يَختَبِئَ إذا تَعِبَ من الرَّكض، لا بُدَّ أن يسبقَهم بمسافَةٍ كافِيَةٍ حتَّى لا يعلموا مكانَ مَنزِلِه، يركضون خلفه، قائِدُهم يسبقهم، يَراه يتوقَّفُ بحوار سيَّارَةِ بطِّيخٍ مُغطَّاة بقُماشٍ رَماديٍّ ثقيل، يرفع طرف القماش ويَسحَبُ سيفًا قصيرًا، الآن ظَهَرَت الأسلِحَة. 

السِّلاحُ في يَدِه سُلطَةٌ على الشارع المُظلِم، يُمنِّي نفسه “خطوات أسرع وتسقط الفريسَة، ضَربَةٌ بَسيطَةٌ بالسَّيف على إحدى القَدَمَيْن ويسقُطُ، ومعه الأموال، أموالي!، سأشتري مُخدِّرات، وأُتاجِر، لن أعمل نَجَّار مسلَّح مرَّةً أخرى”. 

يراه يقترب منه أكثر، يتأكَّد أن الأموال في جيبه ولم تَسقُط، يدخل شارِعً مُتفرِّعً صغيرًا، يرى أضواء خافتة، يعرف هذا الشارع، في منتصفه مَقهًى صغيٌر، كان يجلس عليه منذ سنوات، يدعو اللهَ أن يكون مفتوحًا، يقتَرِبُ من المقهى، يَجِدُ الكراسي مرصوصةً فوق بعضها استعدادًا للإغلاق، يُسقِطُها؛ لعَلَّها تُعيقُهم، يصرخ عامِلُ المقهى، رجُلٌ في منتصف الخمسينات، جَسَدُه نحيلٌ، أصلَعُ، شُعَيراتٌ صغيرةٌ بيضاءُ تَحتلُّ ذقنه وشارِبَه، يتوقَّفون، الذُّعر في عينيه واضِحٌ كشَمسِ الظَّهيرة، يلتَقِطُ أنفاسَه ويقول: “العيال دي ثَبِّتوني وعايزين يسرقوني”. 

قائِدُهم في يده السَّيف على مسافَةٍ كافِيَةٍ من المقهى، يَردُّ: “ده نشَّال، سرق فلوس من واحدة سِتّ.. جرينا وراه، الفلوس في جيبه ورق مِيَّات كتير، هات ياض الفلوس بتاعة السِّتّ”. 

يتنقَّل العامِلُ بعينَيْه بينهم، يرى السِّلسِلَةَ الصَّفراءَ والسَّيف، يقول بحَسمٍ: “هات السِّتّ تاخُد فلوسها”. 

“طيِّب امسِكُه عندَك”، يشير إلى الطِّفل ويَغمِز: “روح هات السِّتّ من على النَّاصية”. 

يَخرُج الطِّفلُ، يَرِنُّ هاتِفُه يَردُّ في سرعة: “أنا عند قهوة «مِعزة» اللِّي جنب سوق الخُضار، عيال بَلطَجيَّة عايزين يِقَلِّبوني في الفلوس، كَلِّمي أي حَدّ ييجي”. 

… 

“إخواتي بعيد على ما يوصلوا هتكون الدِّنيا خِربِت، بسرعة يا سميرة”. يُنهي المُكالَمَة، يحاول أن يتَّصِلَ بأحَدٍ، يبحثُ في الأسماء، يَرتَعِشُ ويَدُقُّ قَلبُه بعُنف، ارتباكُه جعل الهاتِفَ بلا معنى، ينظر بتَحدٍّ إلى القائد الذي يُلوِّح بِسَيفِه على رقبته “سأذبَحُك”. 

يدخل المقهى، لا يَمنَعُه الرَّجُلُ العجوز، يُغلِقُ الهاتِفَ ويَنتَظِرُ المَدَدَ، يختار مقعدًا ظَهرُه للحائط، ويسأله: “عم محمد ماجاش انَّهارده؟”. 

يَردُّ القهوجي: “محمَّد مين؟”. 

“محمد القهوجي”، يرفع ساعِدَيْه بمُحاذاة كتِفَيْه ويَنفُخُ الهواءَ في فَمِه، ويُضيف: “المَليان ده”. 

يتذكَّر: “آه محمد ده ساب القهوة بقاله اكتر من سنة”.  

يستمرُّ في الحديث، لا يُريدُ أن يَفقِدَه: “أنا زبون القهوة من سنين، بس مَشاغِل الدِّنيا خَدِتني، بَطَّلت أقعد على القهاوي من ساعة ما رَبِّنا رَزَقني بفاطمة، واسم الحاج إيه؟”. 

–      “مُرقُس”. 

يَشعُر بالحَرَج، قبل أن يَزوغَ منه، يقول: “أنا أحمد.. ساكِن في حارة «سَماكَة» اللِّي فيها الجَزَّار الجَمَلي”. 

–      “انتَ على كده تعرف حمادة الاعرَج اللِّي ساكن في بيت العَجَلاتي”. 

يبحَثُ عن الصُّوَر في عَقلِه، وعينه على السَّيف الذي يُهدِّدُه: “أبو ياسمين.. اللِّي طِلشع معاش بعد ما رِجلُه اتقَطَعِت”. 

–      أيون.. ده زبون قديم، بييجي يلعب طاولة ويِشيِّش كُلّ يوم هو واصحابُه”. 

الحوار يَنسِجُ النُّفوسَ، يُذيبُ الرِّيبةَ والشَّكَّ، وتتشكَّل وجهاتُ النَّظَر والانطباعات، ينظر القَهوَجي في عينيه ويسأل: “إيه حكاية الفلوس؟”. 

يجيب بثَباتٍ، وعيناه مفتوحتان: “جمعيَّة، شَقَا عُمري، سَنَتين بادفَع، وقَبَضتها انَّهارده، هاسَدِّد بيها ديون، أنا ماضي وصولات أمانة، هاروح في داهية”، يُمسِكُ يَدَه ويُكمِلُ: “العيال دي هَتمَوِّتني لو سِبتِني”. 

يَسحَبُ العجوزُ يَدَه ببُطءٍ، يَهربُ بِعَينَيْه: “أنا مش عايز مشاكل، أنا عايش يوم بيوم، ورايا بِيت مَفتوح من القهوة دي”. 

يَردُّ في سُرعَة: “خَلِّيك معايا شويَّة.. هييجي ناس تَبَعي، انتَ تِقفِل القهوة، وانا اروَّح، خِدمة مِش هانساهالَك”. 

يُخرِجُ 50 جُنيهًا رطبة من يد بائع التين يفردها على الطَّاولَةِ أمامَه ببطء، يترُكُ العَجوزَ يَنظُر إليها، وهو يُتابِعُ حامِلَ السَّيفِ، ويَنتَظِرُ المَدَد. 

يقدِّم الوَرَقَةَ للعامِل: “قهوة مَظبوط، ومعسِّل، ومش عايز الباقي”. يتردَّد العجوزُ، يأخُذُها: “أنا مش عايز غير حَقِّي، رَبِّنا يغنينا”. 

ينظر إلى الشَّارِع مَرَّةً أخرى: “يا معلِّم كفاية إنَّك هترَوَّح متأخَّر بسببي.. ربِّنا يديم المَحبَّة”، بدأت خلايا النَّجاةِ تَعمَل. 

يَتحرَّك إلى داخل المقهى، يَسحَبُ الدُّومينو ويَضَعُها على الطَّاولة، يَخرُجُ من المَقهَى، يرى شَبحًا يَحمِلُ سيفًا، يُقرِّبُ “طقطوقة” معدنٍ من يَدِه: “خُد ياض نِتفاهِم”. 

يَتمايَلُ القائِدُ مُتَّجِهًا نَحوَه بِحَذَرٍ: “انتَ فاكر إني هاسيبَك؟ أنا هافشَخَك واعَلَّقَك على باب القهوة”. 

يضحكُ بِسُخرِيَةٍ: “انت خايف؟ أنا مش هاخنُقَك تاني، تعالى نلعب دومينو على فلوس وأنا هاحاسِب على المشاريب”. 

يتوقَّف القائِدُ من المُفاجَأة: “أنا هالعَب في عينيك”. 

يَردُّ بسُرعَة: “القهوجي عِرِف شَكلَك، وسمِعتِني باتكلِّم في التِّليفون، والناس جايَّة، وهتِزعَل، 500 جنيه على الترابيزة.. كِسِبْت.. حلال عليك…”. 

يتحرَّكُ على طاولةٍ على حدود المَقهى بالشَّارع، يَضَعُ الدُّومينو عليها، ويَجلِسُ ظَهرُه للحائِط، يَعدُّ 5 ورقاتٍ ببُطء: “واحد.. اتنين.. تلاتة.. أربعة.. خمسة… تعالى يا شرموط”. 

يَقتَرِبُ عامِلُ المقهى بِيَدِه الشِّيشة، ينظر إلى البلطجي: “سيب اللعبة اللي في إيدك يا شاطر، وإلَّا هاربُطَك للصُّبح، والسُّوق هيتفرَّج عليك مَلط”. 

يَشعُرُ القائِدُ بِفَخٍّ، يَعبَثُ بالسِّلسِلَة الصفراء، ينادي على رفيقَيْه، يَضَعُ السَّيفَ أسفلَ كَومِ الكراسي خارج المقهى، يدخلون، مَهزوزين، يُعطي الرَّجُلَ العَجوزَ الـ 5 ورقات، ويأخُذُ منه ورقَةَ عُبوَّة معسِّل وقَلمًا: “شوف الشباب يشربوا إيه”. 

وتبدأ اللُّعبَة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *