خالد علي يكتب: العامل وعويل رجال الأعمال
حتى اليوم تقف البشرية عاجزة عن خلق بديل للحماية من عدوى وباء كورونا إلا من خلال التباعد الاجتماعى بأن يبقى البشر فى منازلهم كى لا تنتقل إليهم تلك العدوى، وهذا التوقف له مخاطره لأنه سيؤدى لانهيار مؤسسات اقتصادية وصناعية وتجارية بما يستتبعه ذلك حتماً من بطالة وتشريد للعمال.
وفى كل الأحوال نجد العمال أمام شقى رحى إما استمرار العمل والاصابة بهذا الوباء القاتل، بل ونقل المرض لكل الدوائر المحيطة بهم فى ظل عجز أى نظام صحى فى العالم عن توفير العلاج لكل هذا العدد من المرضى، أو التوقف عن العمل لحين زوال الخطر بالرغم من كل الأضرار الاقتصادية المتوقعة.
نعم التكلفة ومؤلمة وباهظة على الجميع، وكل الخيارات صعبة ما لم تنجح البشرية فى إيجاد علاج لهذا الوباء أو وسيلة تحول دون انتقاله بهذه السهولة بين البشر.
يرفع البعض شعار (الأرواح قبل الأرباح) من منظور أنه شعار عمالى عالمى لكن فى هذه الأزمة هو يتجاوز النطاق العمالى فهو شعار إنسانى من أجل إنقاذ كل البشر وليس العمال فقط، فكل من يتواجد فى مواقع بها مصاب أو أكثر حتماً سوف تنتقل إليهم العدوى لا فرق بين كبير وصغير ، لا فرق بين عامل وصاحب منشأة، وإلا لكان رئيس وزراء بريطانيا بعيداً عن الإصابة بهذا المرض، كما أنه وفى ظل هذا الظرف العالمى شعار إقتصادى شامل يتجاوز أيضا فكرة الحد من استغلال العمال فى شأن عدد ساعات العمل المفروضة عليهم يومياً أو ظروف العمل فى المنشأة وضمانات السلامة والصحة المهنية أو عدالة الأجور بها، فهذا الشعار فى جوهره اليوم أبعد من ذلك بكثير، فهو من أجل تقليل إنتشار العدوى وحماية كل البشرية، وأى خسائر مادية واقتصادية اليوم يمكن تداركها غداً أما خسائر الأرواح فلا يمكن تداركها، فضلاً على أن انتشار المرض سيؤدى أيضا للركود الاقتصادى العالمى، وسيخلف أضرار اقتصادية مفزعة.
وعلى الصعيدين الدولى والمحلى يعلم الجميع أن تكلفة وباء كورونا سيتحمل العمال نصيب كبير منها، فمنظمة العمل الدولية تقدر أن البطالة سوف تطول نحو 5 ملايين عامل فى حالة السيناريو الأقل، وقد تصل إلى 25 مليونا فى حالة السيناريو الأعلى.
إذا كان من السهل على صاحب المهنة الحرة أن يتخذ قراره بالتوقف عن العمل لأنه سيد قراره، والخيار بيده، وإذا كانت الحكومات قد منحت إجازات لبعض موظفيها وخفضت طاقة العمل للحدود القصوى اللازمة لتشغيل أجهزة الدولة والخدمات الأساسية، فإن العاملين فى القطاع الخاص يخضعون لترهيب الفصل والتشريد إن لم يلتزموا بالانصياع لقرارات أصحاب المنشآت بالذهاب للعمل، وفى مصر تركت الحكومة الخيار للقطاع الخاص بأن يغلق كلياً أو جزئيا أو يستمر فى العمل وفقا لخياراته، وانطلاقاً من مسئولياته الاجتماعية، مع العلم بأن معظم المشتغلين بأجر يعملون لدى القطاع الخاص المنظم (33% من إجمالى المشتغلين بأجر)، يليه القطاع الخاص غير المنظم (32% من الإجمالي)، مقابل 30% لدى القطاع الحكومى و4% لدى القطاع العام وقطاع الاعمال العام، والباقى لدى القطاع الاستثمارى والتعاوني، الأمر الذى يوضح أن الحكومة المصرية خفضت العمل فى نطاق 34% من العمالة فى مصر فقط، أما 66% من العمالة فقد تجاهلت الحكومة إصدار أى قرار ملزم يفرض على قطاعات العمل الباقية، اللهم إنها قررت حظر التجوال من الساعة السابعة مساء حتى فجر اليوم التالى لمدة 15 يوما، وهو ما دفع بعض المنشآت لتقليل ساعات العمل أو عدم وجود ورديات مسائية، وبالطبع تأثرت كافة الأنشطة الإقتصادية المسائية فى مصر، لكنه كان قرار لازم وضرورى من أجل الحيلولة دون انتشار العدوى، وجعل نطاق المصابين داخل الحدود التى تستطيع الدولة مواجهتها، والقول بعكس ذلك هو جريمة إنسانية لأن انتشار تلك العدوى يعجز أى نظام صحى عن مواجهته مهما كانت قوته وقدراته.
وكل ذلك يوضح الفهم الخاطىء لطبيعة دور الدولة فى حماية عمال القطاع الخاص، فعلاقات العمل ليست مجرد علاقات اقتصادية أو تجارية فى سوق العرض والطلب بين العمال وأصحاب الأعمال، بل هى علاقات إنسانية واجتماعية يقوم عليها بنيان الاقتصاد القومى بل ويقوم عليها جانب من مرتكزات الأمن القومى لأى دولة، ومن ثم فهى ليست طليقة من كل، فهناك شروط وقيود وحالات تحتم على الدولة التدخل لحماية حقوقهم، وعدم التعسف ضدهم فما بالنا بضرورات تدخل الدولة لحماية أراوحهم وحماية المجتمع، وهنا تجب الإشارة إلى أن طلاب كليات الحقوق يدرسون قانون العمل باعتباره عماد التشريعات الاجتماعية، والفارق بين التشريع الإجتماعى والتشريع العادى أن المشرع فى التشريع العادى يضع قاعدة عامة مجردة يوازن فيها العلاقات بين أطرافها، أما التشريع الاجتماعى فالمشرع لا يساوى بين الأطراف بل يجب عليه أن يضع القواعد التى تضمن حماية الطرف الأضعف فى تلك العلاقة، فمثلاً فى تنظيم العلاقة بين الزوج والزوجة حال النزاع بينهم ينحاز المشرع لحماية المصلحة الفضلى للطفل باعتباره الطرف الأضعف والأولى بالرعاية والحماية، وكذلك فى تشريعات العمل ينحاز المشرع إلى وضع الضمانات والقواعد التى تحمى العمال من التعسف وتضمن عدالة الأجور، وتكفل تطبيق المعايير الدولية للعمل اللائق، ومن ثم وفى ظل مخاطر انتشار هذا الوباء فعلى الدولة أن تصدر قرارات وتشريعات ملزمة تحمى العمال من مخاطر انتشار العدوى، وتلزم أصحاب العمال بإغلاق المنشآت حال توافر المخاطر التى تنذر بحدوث هذه الكارثة، وتضمن حقوق ورواتب العمال، بل ومن حقها التأميم المؤقت لبعض المنشآت من أجل توفير إحتياجات المجتمع الأساسية ومنع الاحتكار والمضاربة فى ظل هذه الظروف الاستثنائية.
رغم أن الدولة لم تجبر القطاع الخاص على إغلاق منشآته، لم أتعجب من عويل وصراخ وضغوط بعض رجال الأعمال فى مصر على الحكومة من أجل رفع الحظر وعدم مده، رغم أنه لم يفرض إلا أسبوعين فقط، فضلاً عن تجاهل رجال الأعمال أن كل إصابة للعمال بهذا المرض بسبب استمرار ذهابهم للعمل، هى إصابة عمل وبسببه يستحق العامل عليها تعويضاً، وعلى الدولة أن تضمن هذا التعويض، بل إن إصابة أيا من أفراد أسرهم ونقل العدوى إليهم يسأل عنها أصحاب هذه الأعمال أيضا، فإذا كانت الدولة لم تصدر تشريعا يلزم القطاع الخاص بالإغلاق، فمن الواجب فى هذه الحالة إصدار تشريع واضح بتعويض العمال وأسرهم عن الإصابة بهذا المرض باعتباره إصابة عمل، وألا يترك ذلك للقواعد العامة حتى تكون هناك حماية كاملة لحقوق العمال الذين يجبرون على الذهاب للعمل فى ظل هذا الظرف الاستثنائى.
كما أنه يجب على رجال الأعمال التوقف عن المتاجرة بالشعارات الوطنية، فرجل الأعمال لا يعمل إلا من أجل تعظيم ثروته وحمايتها، وعند المفاضلة بين هذه الغاية وبين المجتمع وحقوقه بل واقتصاد الدولة يختار حتماً ثروته، أما الدولة فتعمل على تعظيم ثروات المجتمع، وعدالة التوزيع، وطرح الأطر والأفكار والسياسات والبدائل التى تضمن تحقيق وتطبيق نموذج تنمية منتج وفعال ومستدام دون إحتكار أو سيطرة وهو ما يتعارض مع مصالح معظم رجال الأعمال.
لقد قامت الحكومة المصرية بإصدار عدد من القرارات والتشريعات لحماية القطاع الخاص وتخفيف الأعباء عن رجال الأعمال حيث خفضت أسعار المدخلات كالكهرباء والغاز وكذلك خفضت معدلات الفائدة، وأجلت سداد أقساط القروض وغيرها من الإجراءات التى ساهمت فى توفير التكلفة عليهم، فمتى يتوقفوا عن العويل واستنزاف مقدرات هذا البلد واستغلال تلك الأزمة على نحو يعرض حياة العمال والمجتمع للخطر الداهم.