حنان طنطاوي تكتب: قضية الأمل
ألم غادر يباغتني بِلسْع حاد في صدري بين الحين والآخر، يدفعني للكتابة ملاذا معتادا، ألجأ إليها حين تحتدم رغبتي في تمويه ما أمُرّ به. أو ربما كانت رهبة الإصابة بفيروس كورونا المستجد -رهبة حازها وهو يحصد كل يوم عشرات الأرواح من حولنا! – هي ما أرغمتني على الفرار بين السطور، أنشد تماهيا أختفي فيه بين عوالم الآخرين.
منذ زمن لا أذكره فَقَد الانتقال من الدنيا لعالم آخر -أكثر يقينا وسكينة- ذعره المعتاد بالنسبة لي، لكني لازلت أخشى العجز الذي قد يمنعني عن الفعل، وأكره كل وَهَن يحول دون نفاذ إرادتي، وأمقت كل ما يقيد الحق في الحياة كما ينبغي لها أن تكون.
تذكرت أني قرأت دعوة من “درب” للكتابة عن معتقلي #قضية_الأمل الذين مر على حبسهم احتياطيا أكثر من عام ونصف، بتهم بدت لي منذ قرأتها مدعاة للضحك المرير!
كنت أبحث عن الدعوة لأعيد قراءة ما فيها وأحاول الكتابة، حين أرادت ابنتي دخول الغرفة التي عزلت نفسي فيها، فأشَرْت لها أن تتوقف عند الباب وأن لاتدخل. كانت تريد أن تريني إحدى أنشطتها مع أصدقائها على جهاز (التابلت)، ورغم تفهمها لسبب منعي لها من الاقتراب مني، إلا أن نظرة الحزن في عينيها لم تخطئ ثقل أنفاسي، وزادته أطنانا!
ذكّرتني تلك الغصة، بغصة مشابهة شعرت بها منذ أكثر من عام، وأنا أقرأ خبرا عن مصادرة الرسالة التي كتبها “نديم” ابن “زياد العليمي” لوالده، أخذها ضابط الأمن، من جدته ومنع الأب من قراءة خط ابنه الذي كتب له ما تَرْجَمَتُه: (أحبك يا أبي. من فضلك أجبني)! تساءلت وقتها، ترى كم جملة أخرى سيصادرها الضباط بين الأب وابنه؟ كم عناق؟ كم تربيتة؟ كم نظرة؟ كم مباراة كانا سيحضرانها سويا؟ كم سؤال يحتار “نديم” في إجابته ولن يجد “زياد” في المحيط ليقلل من حيرته؟! كأن يسأله لماذا سجنوك يا أبي، وأنت كنت تساعد المظلومين في إخراجهم من السجن؟!
لم تتوقف مأساة الخطابات التي أدمت فؤادي على منع طفل من مراسلة والده، بل وصلت حد التنكيل بأم تخطت الستين من العمر، لأنها فقط أصرت على أن تتسلم رسالة من ابنها -الممنوعة من رؤيته بسبب وباء كورونا- لتطمئن عليه.
أحاول عبثا فهم منطق الضابط الذي يصادر مثل هذا الحق الإنساني البسيط! ما الذي قد يهدد الأمن في خطاب مكتوب بخط طفل يوجهه لوالده؟! أو خطاب يكتبه سجين لأهله؟!
ربما كان الضابط ينفذ تعليمات تم إصدارها واعتمادها بشكل غير قادر على التمييز أو الاستثناء لمناضل اعتُقِل وهو يعبر عن رأيه المختلف مع سياسات الدولة، علنا، ويتخذ في سبيل ذلك خطوات مشروعة في كل الدول التي تتعامل بالدستور والقانون، كأن ينشئ مثلا تحالف سياسي ويسميه: “تحالف الأمل”!
أو ربما كان هذا الضابط عاجزا عن التعاطف مع أمهات من طراز المناضلتين المبهرتين “ليلى سويف” و ” إكرام يوسف”، لأنه غير قادر على أن يستشعر من بين بريق القوة في عيونهما، ونبض الشجاعة في حضورها، خفقة قلبيهما الملتاعة شوقا، وألما، وقلقا، على فلذات كبديهما!
قررت أن أؤجل الكتابة قليلا ريثما تهدأ رعشة تسري في أوصالي، جراء ارتفاع درجة حرارتي، جاهدت إرهاقي وتناولت خافض الحرارة، ثم التحفت بالغطاء أحاول النوم، لربما بدّدت بعضا من ذلك الإعياء الذي أمقته، لكن شخصا ضخم الجثة بملامح متجهمة، اقتحم غرفتي من نافذة أصغر كثيرا من حجمه، كان صوته أجشا، مزعجا، وهو يناديني كي أنهض فورا، ويرفع عني (البطانية) ويلقيها على الأرض! توسلت إليه بعينيّ، وأنا غير قادرة على النطق أن يعيد لي (البطانية)، كانت ارتجافة أطرافي تتزايد، لكن تنهيدة طويلة أنقذتني، استطاعت مغافلة الهواء الذي بات مؤخرا شحيحا مع رئتي، وأفاقتني من غفوتي، لأجد بطانيتي على الأرض.
يبدو أن الحُمّى، بمقدورها أن ترجف أيضا ما ترسب في العقل الباطن، وتصهر ما تكتل فيه من ألم مكبوت شعرت به؛ عندما قرأت عن تكدير عدد من المساجين السياسيين بمنعهم من الغطاء والطعام والدواء!
اتصلت بي صديقتي تطمئن أن حالتي لازالت مستقرة، يأخذنا الحديث وتحكي لي عن مسلسلها اليومي في البحث دون جدوى عن عمل مستقر، ومخاوفها من إنهاء عقدها الرابع وهي وخطيبها لازالا غير قادرين على تأسيس بيت للزوجية! تسألني عن الرواية التي أحاول منذ زمن إتمام كتابتها، فأجبتها أني الآن مشغولة أكثر بقراءة كتب ودراسات حول تاريخ الصراع العربي الصهيوني، قاطعتني ملتاعة قبل أن أخبرها أني أفكر في كتابة مقالة عن معتقلي الأمل، (إنتي مالك ومال السياسة؟! خليكي إنتي في الكتابة الأدبية والكتابة عن الحاجات اللي تشبه حياتنا الله يخليكي). قالتها وأنهت المكالمة سريعا، لكن الحوار امتد في ذهني، ووجدتني أسأل وما هو (شَبَهُ) حياتنا؟
استأنفت البحث عن دعوة الكتابة عن قضية الأمل على صفحة “درب”، في طريقي مررت بأخبار عن بيع شركة الحديد والصلب، واعتقال بعض من العمال المعتصمين، وأخبار عن ازدياد الإصابات والوفيات من كورونا المستجد، ومناشدات من نقابة الأطباء لاتخاذ التدابير التي تحمي الأطباء والمواطنين، والإعلان عن الأعداد الحقيقية!
تذكرت الإعلان الذي قرأته في عملي عن سعر التحاليل المطلوبة لمصابي (كوفيد_١٩)، بتكلفة تجاوزت نصف مرتبي! اختتم الإعلان التجاري صيغته بجملة :(مع العلم بأن المسحة غير معتمدة). لم أفهم ما جدوى عمل مسحة غير معتمدة؟! فأجابني زملائي، أي أنها غير معتمدة في إجراءات السفر. تُرى لو كتبت عن التحول الإداري الذي تم مؤخرا في عملي، فيما يخص نفقات العلاج والكشف الطبي، والذي يطالب العاملين باستيفاء إجراءات معقدة تديرها شركة تأمين خاصة، ستكون أيضا كتابة في السياسة التي لا ينبغي لي الكتابة عنها؟!
حلقي يؤلمني، ونَفَسي يضيق عندما أغلق النافذة، أفتحها فتجتاحني برودة، أحاول التغلب عليها بكوب من الزنجبيل بالليمون، الذي لا أميز طعمه ولا رائحته. لا شيء سوى ماء ساخن يمر في حنجرتي يهون بعضا من الحُرْقة فيها، ويتسبب في حُرقة أكبر في قلبي أن الحياة بلا مذاق أو نكهة. لم أتخيل يوما عظم وأهمية حاستين كالشم والتذوق ، حواس تنبئ باقتراب الخطر، أوالنعمة، وما أصعب الحرمان من التمييز بين ما قد يحيينا أو يهلكنا.
لا يجب أن أستسلم لهذا التداعي الذي أشعر به زاحفا على جسدي ونَفْسي، لازلت قادرة على التنفس، وإن كان ببعض الصعوبة . (أنا لسة عايشة).
ازداد التسارع في أنفاسي، وأنا أقرأ جملة (ماتقلقش لسه مامَتْش)، كانت ردا من أحد الضباط على أخو سجين من معتقلي الرأي يتم (تدويره) كلما تم الإفراج عنه، ليعاد حبسه على ذمة قضايا أخرى مفاجأة له ولأهله، وَرَد ذلك ضمن بيان طويل كتبته أسرته، يضج بالاستغاثة، والتنديد بالتعذيب الذي يتعرض له ابنهم، وكل من هم مثله، عقابا لهم لأن عائلاتهم تقدمت بشكوى لمجلس الوزراء!
لازلت أبحث عن ما يمكن أن أكتبه بخصوص السجن والمعتقلين، فيصادفني مقطع فيديو يتناول حوارا مع موسيقِي تم احتجازه في نفس السجن مع بعض من رؤوس ورجال النظام الذي أسقطه الشعب بعد مضي عشرات السنوات من النهب، والمرض، والتهجير. كان يحكي عن سجنه مزهوا، يصف المكان الذي خُصِّص لهم في السجن، وكيف كان يتسع لثلاثة آلاف شخص، بينما عددهم لا يتجاوز الستة عشر سجين، ويزداد حماسه وهو يحكي عن ما كانوا يتنعمون به من صالات رياضية وحمامات بخار!
وجدتني أبكي مذعورة من حجم الظلم، وتخيلت مدى القهر الذي قد تشعر به أم أحد المعتقلين الذين يتم انتهاكهم يوميا لأنهم حاولوا الانتصار لإرادة شعب ثار، ودفع ثمن ثورته من نور عيونه، ونبض قلبه، وسريان أنفاسه!
العجيب أن أمهات مثل هؤلاء الأبطال، لا يبدين أي جزع مهما اختبرن من التحديات والمِحَن، ولا يفيض منهن إلا القوة والرضا والإباء!
سيدة مثل “نجلاء المغربي” دائما ما تبسط بابتسامتها وثباتها ظلا يواسي لوعة القلب وصهده. ظل يليق بشجرة مورقة، جذعها ثابت، منبثق من جذر أصيل مناضل، وفرعها يشق السماء بإيمانه، وعزمه، وإصراره، وحكمته. إنها أم “حسام مؤنس” ذلك الشاب الذي كنت أرى المستقبل يلوِّح مبتسما بين كلماته، عندما يتم تقديمه بصفته مدير حملة “حمدين صباحي” الانتخابية.
أحاول بصدق فهم سر كل هذا الثبات والقوة في الحق لمن هو في قلب المعاناة، بينما أرتعد أنا من التعب والأرق لمجرد القراءة عن حجم تضحياتهم ومحاولة استيعابها أوالكتابة عنها، ربما كان ذلك الإحساس الذي أشعر به هو ضريبة التقاعس عن الإقدام، والتراخي في الاستعداد للبذل ودفع الثمن.أو ربما كانت معاناة المناضل وزنزانته هي تجربته الكاشفة، الوضاءة، التي تدله على جنة المؤمن في قلبه.
وفي ذلك لم أجد أجمل مما كتب “حمدين صباحي”: (لم أسأل حسام عن الجنة الزاهرة في قلبه، فقد كنت أراها.
…………….
حين بلغني نبأ القبض عليه، ووسط جيشان المشاعر، غمرتني موجة من الطمأنينة وطغت على وجهي ابتسامة واثقة، فقد استيقنت أن حسام -بينما يغلقون عليه مصاريع زنزانته- يدخل الآن جنة قلبه آمنا مطمئنا.)*
لم أقوَ عى كتابة مقال يليق بقضية الأمل، لكني بعد أن حاولت قراءتها، شعرت بأني أكثر قدرة على التنفس، لم يكن ذوباني في عالمهم ونضالهم تمويها أو تخفيا، بقدر ما كان استنفارا للتحقق.
استطعت أخيرا تمييز بعض من عطر الوردة التي تركتها لي ابنتي، بجانب رسالة كتبت لي فيها ما ترْجَمَتُه: (ليس مسموحا لك بالهزيمة، غدا ستقترب الخُطى من جديد، ومعا سننتصر)..