حقوقيون: حكم الإدارية العليا بحظر إضراب الموظفين العموميين مخالف للدستور.. ويتعارض مع حكم سابق للمحكمة ويستوجب الإحالة لـ”توحيد المباديء”
خالد علي: الإضراب لا يخالف أى نص فى القانون العام.. وعدم تشريع ممارسة الحق يعني إطلاقه لا مصادرته وتقييده
مالك عدلي: مصر ملزمة بحماية الحق في الإضراب وفقا للعهد الدولي.. وإلغاء جزاءات موظفة استئناف الإسماعيلية تأكيد للحق الدستوري
كتب – محمود هاشم
استطلع “درب” آراء محامين حقوقيين بشأن قرار المحكمة الإدارية العليا، أمس، بإلغاء الحكم الصادر من المحكمة التأديبية لوزارة الصحة وملحقاتها ببراءة 3 من العاملين بالهيئة العامة للبريد، وقضت بفصلهم، لإضرابهم عن العمل في فبراير من عام 2014، متهمة إياهم بتعطيل العمل ومنع تحصيل المبالغ المالية المستحقة للدولة.
وكشف المحامون عن تعارض الحكم مع آخر صادر من المحكمة الإدارية العليا نفسها يؤكد حق الإضراب بما كفله الدستور، مؤكدين أن تعمد غياب التشريع الذى ينظم كيفية ممارسة هذا الحق لا يجب أن يحرم العامل مطلقاً من حق كفله الدستور، ويتعامل معه باعتباره إثما يستحق عليه الفصل من العمل، وأن حجم العقوبة الموقعة على الموظفين لا يتناسب مع الفعل، خاصة أنه كان إضرابا سلميا لم يشهد أي أعمال عنف أو تخريب، وفقا لحيثيات الحكم ذاته.
وقالت المحكمة في حيثيات حكمها إن جميع الدساتير خلت من النص على الإضراب سوى دستور 2012، وأن نقل دستور 2014 عنه غير قابل للتطبيق بذاته، لافتة إلى التعارض بين حق الإضراب السلمى وحق المواطن في استئداء خدمات المرفق العام يوجب تغليب مصالح المواطنين.
واعتبرت المحكمة أن إضراب الموظفين العموميين يفقد المواطنين الثقة فيهم، قائلة إنه لا توجد اتفاقية دولية تنظم الإضراب فى المرافق العامة، وإن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان خلا من التصريح أو التلميح إليه كحق.
وفي هذا السياق، قال المحامي الحقوقي والمرشح الرئاسي السابق خالد علي، إن الإضراب عن العمل لا يخالف أى نص فى القانون العام، فهو حق دستورى منذ ٢٠١٢، والنص قابل للتطبيق بذاته، فطالما لم يضع المشرع تشريعا ينظم كيفية ممارسة هذا الحق، فلا يعنى ذلك مصادرته وتقييده بل يعنى إطلاقه، وهذا هو ما أخذت به محكمة أمن الدولة العليا طوارىء، وكل المحاكم الإدارية، وكذلك حكم الإدارية العليا، حتى في حالة التعارض بين القاعدة القانونية والقاعدة الدستورية تطبق الأخيرة.
وأضاف أنه بشأن الإطار الدولى، اعترف العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذى أضحى جزء من التشريع المصرى منذ ١٩٨١ بالحق فى الإضراب، وليس بشرط أن تكون له اتفاقية مستقلة، وفوق هذا وذاك أضحى حقا دستوريا.
وشدد على أنه لا يوجد أى نص فى القانون العام يحظر حق الإضراب، لافتا إلى أنه كان الأولى بالمحكمة أن تحيل الملف إلى دائرة توحيد المبادىء بالمحكمة الإدارية العليا، لتصدر مبدأ موحدا، خاصة فى ظل وجود حكم سابق للإدارية العليا لا يحظر الحق فى الإضراب ولا يجرمه ولا يرتب على ممارسته أى عقوبة.
وأوضح أن التعارض بين المبادىء يستدعى تدخل المشرع لتنظيمها، بما يحقق التوازن بينها، ولكن تعمد غياب التشريع الذى ينظم كيفية ممارسة هذا الحق لا يجب أن يحرم العامل مطلقاً من حق كفله الدستور، ويتعامل معه باعتباره إثما يستحق عليه الفصل من العمل.
وأشار إلى أن العقوبة التى تبنتها المحكمة مغالى فيها ولا تتناسب مع الفعل، فطالما هو حق دستورى، وحتى لو أدى لتعطيل العمل بعض الوقت يحب أن يكون الجزاء متناسباً مع الفعل، أما تقرير عقوبة الفصل على من يمارس الحق الدستورى فى الامتناع عن العمل يعنى مصادرة هذا الحق بالمخالفة للدستور الذى كفله.
وقال المحامي الحقوقي مالك عدلي، مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إن الحق في الإضراب منصوص عليه في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي أو الاحتجاج السلمي، وهو أمر منصوص عليه قانونا، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليس وثيقة ملزمة بين الدول، على عكس العهد الدولي الذي يعد اتفاقية ملزمة للحكومة المصرية.
وأضاف: “هذا الحق يدعمه أيضا، حكم من المحكمة الإدارية العليا نفسها في عام 2015، أكدت فيه أن الإضراب السلمي حق دستوري لكل الموظفين والعمال”.
كانت موظفة بمحكمة استئناف الإسماعيلية، طعنت أمام المحكمة التأديبية بالإسماعيلية على قرار رئيس محكمة الاستئناف برقم 30 لسنة 2012، الذى تضمن مجازاتها بالخصم 3 أيام من راتبها واحتساب أيام 28 و29 فبراير والأول من مارس 2012 انقطاعا عن العمل بلا أجر، بزعم إضرابها عن العمل خلال تلك الأيام.
وأصدرت المحكمة التأديبية حكمها رقم 25 لسنة 18 ق بإلغاء الجزاء وصرف كامل أجر الموظفة، مؤكدة أن الإضراب السلمى حق وليس جريمة تستوجب العقاب، فطعن وزير العدل ورئيس محكمة استئناف الإسماعيلية على هذا الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا، التي قضت برفض طعنهما في 2015، وأيدت حكم المحكمة التأديبية بالإسماعيلية.
وأوضح عدلي إلى أن هذا الحكم يتشابك مع حكم آخر صادر من الدائرة الرابعة بالمحكمة الإدارية العليا، التي أصدرت حكما سابقا في الطعن 24587 لسنة 61 ق ع بمعاقبة بعض الموظفين بعقوبة الإحالة للمعاش لكون الإضراب عن العمل يؤدى إلى تعطيل المرافق العامة، وبزعم أن ذلك يخالف أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها، بما يفيد أن حيثيات الحكم الجديد تتضمن عدولا ضمنيا من المحكمة عما قضت به سابقا.
ولفت إلى أن الدائرة ذاتها أكدت عدم مخالفة الإضراب للشريعة الإسلامية، مؤكدة أنه حق منصوص عليه دستوريا ومعترف به دوليا، وهو ما يستوجب إباحة المشرع آلية استعماله، موضحة أن هناك فرق بين استعمال حق الإضراب السلمي، وبين الاعتداء على المنشآت وتخريبها، حيث تقرر الجزاءات التأديبية أو الجنائية على أفعال التخريب أو منع العمل جبرا.
وأوضح أن الحكمين المتناقضين باتا يستوجبان على مجلس الدولة إرسال الدعاوى بهذا الشأن إلى دائرة توحيد المباديء، لتحدد أي من الحكمين أصح قانونيا ودستوريا.
وكان المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أوضح في تعليقه على حكم “الإدارية العليا” الخاص بموظفة الإسماعيلية، أن المحكمة في حكمها السابق كانت ترى أن حق الإضراب تقرر للعمال بموجب العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذى صدقت عليه مصر، وأن تنفيذ هذا العهد مقيدا بتحفظ مصر بعدم مخالفة أحكام الشريعة الاسلامية، وهو التحفظ الذى استندت إليه المحكمة في حكمها السابق وتجاهلت نصوص الدستور المصري، فضلا عن أن المحكمة كانت ترى أن “إضراب الموظفين العموميين جريمة جنائية”.
أما في الحكم الثاني عدلت المحكمة ضمنيا عن هذه الرؤية، ليؤكد مضمون مبدأها الجديد على أن الإضراب أضحى حقا دستوريا للعمال والموظفين الحكوميين وليس جريمة أو منحه، وأن الإضراب يستمد وجوده وقوته ليس فقط من الاتفاقية الدولية ولكن من النص عليه أيضا بدستوري 2012 و2014، حيث نصت المحكمة صراحة في حيثيات حكمها الجديد على (أنه بموجب دستوري 2012 و2014 لم يعد الإضراب منحة بل صار من الحقوق الدستورية المكفولة لكل فئات العمال بغض النظر عن طبيعة الجهة التي يعملون بها، أي سواء بالقطاع الحكومي أو العام أو الخاص).
ونوه إلى أن الحكم السابق كان يرى أن حق الإضراب “رهين بوضع القوانين المنظمة له بما لا يخالف الشريعة الاسلامية، وأن هذه القوانين لم تصدر حتى هذه اللحظة بل أصدر المجلس العسكري المرسوم بقانون 34 لسنة 2011، والذى يقطع بأن المشرع المصري تبنى موقفا متشددا إزاء إضراب الموظفين”.
أما في الحكم الثاني عدلت المحكمة عن هذه الرؤية، وأكدت على أن تقاعس المشرع عن وضع قواعد تنظيم ممارسة الموظفين للإضراب لا يمنعهم من ممارسته لأنه سار حقا وليس جريمة تستوجب العقاب، ونصت صراحة في حيثيات حكمها الجديد قائلة (بمعنى أنه أضحى معترفا به كحق مشروع من حيث المبدأ ومنح المشرع واجب تنظيمه، وسواء نشط المشرع أو لم ينشط لينظم هذا الحق على النحو الذى يستحقه شعب عظيم قام بثورتين -ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونية 2013- فإن استعمال العمال لهذا الحق جلبا لحقوقهم دون إضرار بالمرافق العامة إنما هو استعمال مشروع لحق ثابت دستوريا ولا يستوجب عقابا).
كما أشار المركز إلى أن الحكم السابق كان يرى أن الإضراب عن العمل يؤدى إلى تعطيل المرافق العامة ومن ثم تعطيل مصالح المواطنين، وهو ما يعنى أن الموظف له منفعة حال مطالبته بحقوقه عن طريق الإضراب لكن هذه المنفعة يترتب عليها مفسدة وهى حرمان المواطنين من قضاء مصالحهم بسبب تعطل المرفق لإضراب الموظف عن العمل، وبالتالي يجب أن نُعمل القاعدة الفقهية بشأن “درء المفاسد مقدم على جلب المنافع” وبزعم أن “أحكام الشريعة الاسلامية لا تجيز توقف عمال المرافق عن تقديم الخدمة التي تقدمها إلى الجمهور”.
أما في الحكم الثاني عدلت المحكمة ضمنيا عن هذه الرؤية، حيث يذهب مضمون مبدأها الجديد إلى أن أي إضراب عن العمل يعنى امتناع الموظفين عن القيام بمهام عملهم، وبالتالي سوف يترتب على ذلك حتما إيقاف العمل بالمرفق، لأنه من غير المنطقي القول بأن الإضراب حق دستوري وعند ممارسة الموظفين له نقول لهم أن هذا الامتناع مجرما ونقوم بمعاقبتهم، ونصت صراحة فى حكمها الجديد على (إذ أنه متى قرر الشارع حقا اقتضى ذلك حتما إباحة الوسيلة إلى استعماله، إذ يصدم المنطق أن يقرر الشارع حقا ثم يعاقب على الأفعال التي يستعمل بها، فيكون معنى ذلك تجريد الحق من كل قيمة وعصفا به كلية وتحريما ومصادرة كاملة للحق ذاته).