حسن البربري يكتب: من فنزويلا الي مصر…شيفرون الامريكية وإعادة رسم خريطة الثروة

منذ نهاية الحرب الباردة لم يعد الاستعمار بحاجة الي جيوش ولا احتلال مباشر بل اعاد انتاج نفسه في صورة اكثر هدوءا تعتمد علي الاقتصاد والطاقة والعقود طويلة الاجل وفي قلب هذا النموذج تقف شركات النفط العملاقة بوصفها ادوات نفوذ لا تقل فاعلية عن السفارات والقواعد العسكرية وشركة شيفرون الامريكية تقدم مثالا واضحا علي هذا التحول حيث تتحرك عبر مناطق نزاع او دول خارجة من صراعات حاملة خطاب الاستثمار واعادة الاعمار بينما تعيد فعليا رسم خرائط السيطرة علي الثروة

شيفرون الامريكية الان

تعد شركة شيفرون الامريكية شركة ضخمة اقتصاديا حيث بلغ حجم إيراداتها في عام 2024 حوالي 193.4 مليار دولار في حين بلغت إيراداتها في سبتمبر الماضي  186.98 مليار دولار بانخفاض حوالي 3.6 % وهو نفس التراجع عن عام 2023 حيث حققت اكثر من 21 مليار دولار صافي دخل و هو ما يعد استمرارا لانخفاض الدخل للشركة في السنوات  السابقة أيضا ما يعكس حجم الضغوط التي تواجهها في السوق العالمي للطاقة ففي التقرير الربع الثالث من 2025 بلغ صافي الدخل ( الأرباح ) وذلك في تراجع واضح عن أرباح عام 2024 وهناك بعض التقارير أظهرت خسائر في بعض وحدات التشغيل مثل التكرير لأول مرة منذ سنوات ما ادي الي ما اثر علي علي سعر السهم في الأسواق ادي الي انخفاض في الربحية و خاصة الناتجة من نشاط التكرير

خلاصة مما سبق فرغم القوة المالية الكبيرة تتعرض شيفرون لتقلبات السوق فقد شهدت بعض الفصول تراجع في الأرباح وهبوط في أسعار الأسهم بسبب انخفاض أسعار النفط وهامش التكرير بينما اضطرت في بعض الفترات إلى رفع توزيعات الأرباح للحفاظ على ثقة المستثمرين فبعض التقارير أظهرت أيضا خسائر في بعض وحدات التشغيل مثل التكرير لأول مرة منذ سنوات.

مصر والاتفاق الجديد

اتفاق الغاز الاخير بين مصر واسرائيل الذي دخلت فيه شيفرون كشريك رئيسي لا يمكن فهمه فقط بوصفه صفقة تجارية فالاتفاق يمتد حتي عام 2040 ويشمل نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة اجمالية تقترب من 35 مليار دولاروهورقم ضخم بمعايير سوق الطاقة في المنطقة ويعني عمليا ان جزءا معتبرا من احتياجات مصر المستقبلية من الغاز سيظل مرتبطا بحقل ليفياثان الذي تديره شيفرون في شرق المتوسط هنا لا نتحدث فقط عن تدفقات غاز بل عن علاقة اعتماد طويلة الاجل تضع قرار الطاقة المصري داخل شبكة مصالح اقليمية ودولية معقدة تتحكم فيها شركة امريكية بالأساس واللافت ان هذا الاتفاق جاء في لحظة تراجع فيها الانتاج المحلي المصري من الغاز وارتفاع فاتورة الاستيراد وهو ما اضعف القدرة التفاوضية وجعل خيار القبول بشروط طويلة الاجل يبدو وكأنه الحل الوحيد لتفادي ازمات الطاقة الداخلية وفي هذا السياق تصبح شيفرون ليست مجرد وسيط بل فاعلا مركزيا يربط بين احتياج مصر ورغبة اسرائيل في تعظيم عوائد غازها وضمان سوق تصديري مستقر لعقود قادمة

دول المغرب العربي وشيفرون

هذا النموذج يتكرر بدرجات مختلفة في دول اخري فالجزائر التي تمتلك واحدا من اكبر احتياطيات الغاز في افريقيا فتحت الباب امام شيفرون للتنقيب البحري في المتوسط في وقت تسعي فيه لتعويض تراجع الاستثمارات الاجنبية وجذب التكنولوجيا ورغم ان الجزائر تفاوض من موقع اقوي نسبيا الا ان دخول شركة بحجم شيفرون يخلق مع الوقت شبكة مصالح تجعل الخروج منها مكلفا سياسيا واقتصاديا

في المغرب يبدو الحضور ما زال استكشافيا لكن المنطق نفسه حاضر دولة تبحث عن اكتشافات محتملة وشركة تدخل مبكرا لتحجز موقعها تحسبا لاي اكتشاف مستقبلي وهو ما يمنحها افضلية تفاوضية لاحقا اذا تحولت الموارد الي انتاج فعلي

في ليبيا رغم أنها ثاني أكبر منتج نفط في أفريقيا وتعتمد إيراداتها بشكل شبه كامل على النفط والغاز إلا أن العشرين سنة الماضية شهدت تقلبات إنتاجية وصراعات داخلية متكررة انعكست على قدرة الدولة على إدارة مواردها و قد صرحت الدولة في اطار جهودها لإعادة جذب الاستثمارات الأجنبية في النفط والغاز من خلال جولات ترخيص جديدة ففي أغسطس الماضي استقبل رئيس الوزراء الليبي وفد من شركة شيفرون التي أعلنت سابقا عن خططها في التوسع في قطاع النفطي  أبدت اهتمامًا بالمشاركة في تطوير الحقول الليبية ذلك يتم في سياق هش سياسي لا يزال يعاني من فجوة عميقة بين الفصائل مع مخاطر أن تستمر العائدات في التبخر عبر شبكات فساد أو تهريب المنتجات أو تكريس نفوذ الشركات الأجنبية بدل تعزيز سيادة الدولة على مواردها

العراق و شيفرون

في العراق شركات النفط الأميركية والأجنبية تعمل بشكل كبير في جنوب العراق وشماله وتستفيد من اتفاقيات طويلة الأجل مع الحكومة العراقية و لكن شيفرون تحديدا لديها امتيازات في حوض القصب/البصرة وتشارك في مشاريع تطوير الحقول ما يجعل العراق مرتبطًا بالعقود طويلة الأجل ويقلل من سيادة الدولة على إدارة الموارد بحرية كاملة وحدث انه في 2013 وقعت الشركة عقد طويل الآجل مع خكومة إقليم كردستان العراق و المرتبط بحقل قره دلغ ما اثر حفيظة الحكومة المركزية العراقية حينها و دفعها الي الامتناع عن ابرام عقود معها ما لم تتراجع عن عقد حقل قره داغ  الا ان و بعد مرور 12 عام الا انه في مطلع هذا الشهر ديسمبر 2025 استقبل رئيس الحكومة العراقية السوداني وفدا من شركة شيفرون للتباحث حول تطوير حقل الناصرية و حقل القرنة بعقود طويلة الاجل في تراجع للحكومة العراقية عن موقفها الأول من شيفرون

السودان وشيفرون

تاريخيا بدات شركة شيفرون بالعمل في السودان في السبعينات والثمانينات ولكنها انسحبت بحلول عام 1992 بسبب الرحب الاهلية و ظروف الامن لتحل محلها الشركات الصينية و خاصة شركة CNPC  و التي لعبت دورا في صناعة النفط السوداني وتعد احد اكبر المستثمرين في قطاع النفط فيه حتي الان ولكن في عامي 2021 و2022  شهدت زيارات ومباحثات لوفد من شيفرون لمناقشة العودة إلى الاستكشاف النفطي بعد غياب طويل  في الوقت التي توسعت فية  الشركة الصينية  CNPC  بشكل اكبرمن السنوات السابقة مما يعد دخول شيفرون في منافسة مع الشركة الصينية هذا التنافس يعكس هشاشة السودان السياسية والأمنية والاقتصادي ودخولها في مضمار الحرب التجارية الصينية الامريكية

سوريا و شيفرون

أما في سوريا فقد شهدت الحكومة الرسمية محادثات أيضا ففي مطلع هذا الشهر التقي احمد الشرع بوفود من شركة  شيفرون لبحث التعاون في مجالات استكشاف النفط والغاز في محاولة لإعادة تشغيل قطاع الطاقة الذي تعطل جراء سنوات الحرب والعقوبات الاقتصادية مما يعكس رغبة الدولة في استغلال ثرواتها لكنها في الوقت نفسه لم يثبت النظام السوري الجديد اركانه بعد و يعاني فوضي بالإضافة الي انه مازالت التحركات العسكرية متفشية في البلاد والتوترات العسكرية من جانب الكيان الصهيوني واحتلال الجولان التي منحها الرئيس الأمريكي الي الكيان الإسرائيلي في وقت سابق كل ما سبق يجعل سوريا  تحت تأثير قوى اقتصادية خارجية كشركة شيفرون .

.اما فنزويلا فتمثل الحالة الاوضح لكيفية تداخل السياسة الامريكية مع مصالح شيفرون فالشركة ظلت لسنوات من القلائل المسموح لهم بالعمل داخل قطاع النفط الفنزويلي رغم العقوبات وادارت اصولا كانت تنتج قبل الازمة ما يقارب ربع مليون برميل يوميا ومع كل تغير في المزاج السياسي في واشنطن كانت تراخيص شيفرون تتوسع او تنكمش بما يعكس استخدام العقوبات كأداة تفاوض سياسي بينما تبقي الشركة حاضرة في انتظار اللحظة المناسبة للعودة الكاملة هذا يعني ان الدولة الفنزويلية رغم امتلاكها احتياطيات هائلة ظلت رهينة لعبة دولية يتحكم فيها الخارج عبر الشركات والعقوبات لا عبر الاحتلال المباشر

ما يجمع كل هذه الحالات ان شيفرون لا تعمل في فراغ بل داخل منظومة تجعل من الطاقة اداة نفوذ جيوسياسي فالإدارة الامريكية لا تضع سياساتها من اجل شركة بعينها لكنها تعتبر نجاح هذه الشركات جزءا من الامن القومي الاقتصادي الامريكي فكل عقد طويل الاجل وكل حقل جديد وكل تدفق مستقر للنفط والغاز يعني طلبا مستمرا علي الدولار وتعزيزا لمكانة الولايات المتحدة في سوق الطاقة العالمية وموازنة نفوذ خصومها

هنا يتجسد الاستعمار الناعم في اوضح صوره لا مصادرة مباشرة للموارد ولا اعلام ترفع ولا جيوش تنتشر بل عقود قانونية محكمة تمتد لعقود تنقل الجزء الاكبر من القيمة المضافة الي الخارج بينما تحصل الدول المنتجة علي عائد محدود يكفي لتسيير الاقتصاد لا لبناء سيادة طاقية حقيقية والأخطر ان هذه الترتيبات غالبا ما تبرر باعتبارها الخيار الوحيد المتاح في ظل الازمات فتتحول الضرورة الي قاعدة دائمة

في النهاية لا تكمن الخطورة في وجود شركات اجنبية بحد ذاته بل في غياب استراتيجيات وطنية واضحة لإدارة الموارد وفي قبول علاقات طويلة الاجل تعيد انتاج التبعية تحت مسمي الشراكة والاستثمار وهنا يصبح السؤال الحقيقي ليس كم سنصدر او نستورد من الغاز بل من يملك قرار الطاقة ومن يحدد شروط المستقبل ومن يدفع كلفة هذه الاختيارات من حق الشعوب في ثرواتها وسيادتها الاقتصادية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *