حسن البربري يكتب: من السُخرة إلى الأجر الأول.. قراءة في دراسة عمرو خيري
في سبعينيات القرن التاسع عشر قرر الخديوي إسماعيل أن يبني مملكة جديدة للسكر بعد أن انهارت مملكة القطن بسبب الحرب الأهلية الأمريكية وانخفاض أسعاره في الأسواق العالمية. استعان إسماعيل بأحدث ماكينات البخار واستورد عشرين مصنع سكر من أوروبا ووضعها في صعيد مصر لتكون نواة لصناعة حديثة تنافس العالم كله. بالفعل وصلت المصانع المصرية وقتها إلى إنتاج يقارب ثمانية في المئة من إنتاج السكر العالمي وكانت مجهزة بأحدث التقنيات، لكن خلف هذا البريق الصناعي كانت هناك حكاية أخرى أقل لمعانًا وأكثر قسوة.
في الوقت الذي كانت الماكينات تدور بالبخار كان الفلاحون يدورون بالقهر.. السُخرة لم تنته كما تروي كتب التاريخ، بل عادت بشكل جديد. عشرات الآلاف من الفلاحين اقتيدوا من قراهم في المنيا وأسيوط والأقصر ليعملوا في المصانع والحقول دون أجر حقيقي. أحيانًا كانوا يحصلون على حبوب أو عسل أسود، وأحيانًا على ورقة صغيرة تقول إن الحكومة خصمت لهم من ضرائبهم، لكن الحقيقة أن المال لم يكن يصل وأن العمل كان بالإكراه والعنف.
في دراسته الجديدة التي حملت عنوان «من السُخرة إلى العمل المأجور» يقول الباحث عمرو خيري إن بداية تشكل العامل المصري لم تكن في المدينة بل في الريف، وإن التحول من القهر إلى الأجر بدأ وسط الفلاحين الذين أُجبروا على العمل في مصانع السكر ثم بدأوا يقاومون بالهروب أو الإضراب. ومع الوقت ظهرت فئة جديدة من العمال الريفيين الذين يطالبون بأجور مقابل عملهم لتكون بذرة الوعي العمالي الأولى في مصر.
الدراسة تقدم قراءة مختلفة لتاريخ الصناعة والعمل في مصر، فهي لا ترى الحداثة من زاوية الماكينات والسكك الحديدية، لكنها تراها من زاوية العرق الإنساني الذي حرك تلك الماكينات. وتقول ببساطة إن التقدم الصناعي الذي شهده عهد إسماعيل كان قائمًا على نظام من الاستغلال المنظم للفلاحين، وأن الماكِنة التي كانت تغلي السكر كانت في الوقت نفسه تغلي وعي الناس الذين يدورون حولها.
الورقة ترسم صورة دقيقة لعلاقة التحديث بالاستغلال وكيف تحوّل مشروع التنمية إلى أداة للقهر الاقتصادي والاجتماعي. فالخديوي الذي استدان من البنوك الأوروبية لبناء المصانع دفع الفاتورة من عرق الفلاحين الذين جرى تسخيرهم للعمل فيها. ومع كل موسم جديد كان عدد الهاربين يزداد حتى بدأت الإدارة تلجأ إلى دفع أجور رمزية لضمان استمرار الإنتاج. ومن هنا ظهر الأجر في الريف ليس كقرار حكومي بل كتنازل اضطراري أمام مقاومة الناس.
لكن رغم غنى المادة التاريخية تبقى الورقة أسيرة الطابع الأكاديمي، فهي تعتمد على إطار نظري غربي يسمى «التاريخ العمالي العالمي» يربط بين أنماط العمل المختلفة من عبودية وسُخرة وأجر. وهي مقاربة مفيدة لكنها أحيانًا تجعل التجربة المصرية تبدو مجرد حالة من حالات النظام الرأسمالي العالمي، بينما هي في جوهرها تجربة خاصة تشكلت من واقع الريف المصري ونظامه الاجتماعي والسياسي. كما أن الدراسة تركز على الجانب الاقتصادي أكثر من السياسي، فلا تتناول بما يكفي دور الخديوي والدولة كطرف أساسي في بناء نظام القهر هذا.
ومع ذلك تبقى الدراسة واحدة من أهم المحاولات في السنوات الأخيرة لإعادة كتابة تاريخ العمال في مصر، لأنها تعيد للريف مكانه في هذا التاريخ، وتكشف أن العامل المصري لم يولد في المدينة بل خرج من قلب الأرض، وأن أول تمرد عمالي لم يكن في مصنع النسيج أو الميناء، بل في مصنع سكر في الصعيد عندما قرر الفلاحون أن يرفضوا السُخرة.
هذه الحكاية القديمة ليست مجرد فصل من الماضي، لكنها مرآة للحاضر. فالعامل الذي يقاوم اليوم ضعف الأجور وغياب الحقوق هو امتداد لذلك الفلاح الذي قاوم السُخرة قبل قرن ونصف حين قال «لا» لأول مرة في وجه سلطة تجمع بين رأس المال والقهر باسم التحديث.

