حسن البربري يكتب: كيف تهربت وزارة العمل من مسؤوليتها في زيادة الحد الأدنى للأجور؟

في الأسابيع الأخيرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لوزير العمل خلال ما وصفته المواقع الرسمية بأنه جولات تفتيشية الوزير يتجول في محلات الطعام والبنزينات يسأل العمال هل بتاخدوا الحد الأدنى هل بتقبضوا تمام ؟ هل في مشكلات ؟ بينما يحيط به فريق إعلامي وكاميرات تصور من كل زاوية المشهد مرتب بدقة الوزير في مقدمة الصورة العمال يبتسمون لتخرج بعدها الأخبار بالعناوين المعتادة الوزير يتفقد أوضاع العمال ويشدد على تطبيق الحد الأدنى للأجور
اليات التفتيش
لكن خلف هذه اللقطة تختفي الأسئلة الحقيقية ما هو التفتيش الذي يتحدث عنه الوزير وأين هي الأدوات القانونية التي نص عليها القانون لتنفيذه وهل يكفي أن تسأل العامل أمام الكاميرا لتتأكد أن حقه محفوظ القانون لم يقل ذلك أبدا بل نص صراحة على أن التفتيش على الأجور يتم من خلال مراجعة دفاتر الأجور والعقود وكشوف التأمينات الاجتماعية وضرائب كسب العمل ومطابقة البيانات بالأجور الفعلية على أرض الواقع أي أن التفتيش عملية فنية وقانونية وليست لقاء تليفزيونيا مفتوحا
الوزير أعلن لاحقا أنه حرر محاضر مخالفات وأحالها للنيابة لكن حين نراجع مضمون البيانات نكتشف أن أغلبها يخص مواقع إنشائية وبنزينات وليس مصانع أو شركات إنتاج وأنه لم ينشر أي تفاصيل عن طبيعة المخالفات أو ما إذا كانت تتعلق فعلا بالأجور أم بمخالفات أخرى كالسلامة المهنية أو التراخيص وهو ما يجعل ما يصفه الوزير بحملات التفتيش أقرب لحملات ترويجية هدفها خلق انطباع بالتحرك والإنجاز دون نتائج حقيقية.

القضية الجوهرية التي غابت وسط كل هذا الضجيج هي أن العمال لا يطالبون بالتفتيش بل يطالبون بزيادة الحد الأدنى للأجور بعد الارتفاع الكبير في الأسعار فزيادة أسعار البنزين الأخيرة انعكست فورا على تكاليف النقل والسلع الأساسية في وقت ارتفع فيه معدل التضخم وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى مستويات غير مسبوقة ومع ذلك لم يتحرك المجلس القومي للأجور منذ صدور القرار الأخير في فبراير الماضي رغم أن القانون الجديد للعمل نص على انعقاده كل 6 أشهر أو كلما دعت الحاجة وهو ما يعني أن الوقت حان لعقد اجتماع جديد لتعديل الحد الأدنى بما يتناسب مع الواقع
العمال والنقابات المستقلة وجهوا دعوات واضحة لعقد هذا الاجتماع وأكدوا أن الحد الأدنى الحالي لم يعد يغطي احتياجات المعيشة الأساسية ومع ذلك لم تصدر الوزارة أي دعوة رسمية لاجتماع المجلس بل انشغلت بتكرار المشاهد الميدانية نفسها في محافظات مختلفة وكأن الهدف هو إقناع الناس بأن المشكلة ليست في قيمة الحد الأدنى بل في التزام أصحاب الأعمال به.

الحقيقة أن كثير من أصحاب الأعمال لم بلتزمو بقرار الحد الادني بالاجور وهو ما ظهر في تزايد وتيرة الإضرابات العمالية في الفترة الحالية ومع تأكل قيمة الأجر مع موجات التضخم الأخيرة فما كان يكفي في فبراير لم يعد يكفي في نوفمبر والوزارة تعلم ذلك لكنها تفضل أن تقدم صورة الوزير النشيط في الشارع على أن تواجه مسؤولية تعديل الأجر لأن زيادة الحد الأدنى تعني مواجهة رجال الأعمال واتحاد الصناعات والمستثمرين الذين يعارض بعضهم أي زيادات جديدة تحت دعوى الأعباء.

إن جوهر الأزمة الآن ليس في تنفيذ الحد الأدنى القديم بل في تحريكه بما يتناسب مع الواقع الراهن وفي تفعيل النص القانوني الذي يلزم بعقد المجلس القومي للأجور كل ستة أشهر لأن تجاهل ذلك يفرغ النصوص من مضمونها ويحيلها إلى شعارات كما أن غياب اللائحة التنفيذية لقانون العمل الجديد يجعل الوزارة تتحرك في فراغ تنظيمي يفتح الباب أمام الاجتهادات الفردية والعشوائية في تطبيق أهم الحقوق العمالية
الوزارة التي تملك سلطة التفتيش والرقابة والتوصية بزيادة الأجور اختارت الطريق الأسهل طريق الصورة والإعلان والبيان الصحفي بينما تركت الواقع يتدهور يوما بعد يوم والعمال يواجهون ارتفاع الأسعار برواتب ثابتة لم تعد تكفي الحد الأدنى من متطلبات الحياة
العمل الحقيقي لا يكون أمام الكاميرات بل في الجداول والملفات والاجتماعات التي تضمن للعمال حقهم في أجر عادل يكفي للحياة وما لم تتحرك وزارة العمل لإقرار زيادة جديدة للحد الأدنى للأجور وعقد اجتماع عاجل للمجلس القومي للأجور فإن كل ما يسمى حملات تفتيش سيبقى مجرد غطاء إعلامي يجمّل العجز ويؤجل الانفجار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *