حسن البربري يكتب: غرق المنوفية وغياب الدولة أين اختفت اللجنة القومية لإدارة الأزمات؟

لم تكن مشاهد الغرق التي خرجت من قرى محافظة المنوفية هذا الأسبوع مجرد فصل عابر من موسم فيضان النيل المعتاد، بل كانت لحظة كاشفة عن مأزق الدولة التي تُحذّر ولا تُنقذ، وتُصدر القرارات ثم تختفي عند أول اختبار حقيقي. في الأيام الماضية، ارتفع منسوب مياه النيل على نحو غير مسبوق نتيجة تدفق الفيضانات القادمة من دول المصب، خاصة السودان وإثيوبيا، وهي موجة فاضت بها الترع والمصارف حتى غمرت بيوت وأراضي الفلاحين في قرى المنوفية. وبينما كان الناس يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأيديهم، لم يظهر مسؤول واحد أو جهاز من أجهزة الدولة في المشهد، لا لإنقاذ السكان ولا حتى لتسجيل الخسائر.

في تلك الساعات، اكتفت الجهات الرسمية ببيانات مقتضبة وتحذيرات عامة من ارتفاع المنسوب و علي المواكنين اخذ الاحتياطيات  وكأنها تتحدث عن واقعة في مكان آخر لا تخصها رغم أن الدولة نفسها كانت قد أصدرت قرارًا وزاريًا بإنشاء لجنة قومية لإدارة الأزمات والكوارث رقم 3185 لسنة 2016 هذه اللجنة يفترض أن تتولى التنسيق بين الوزارات والهيئات المعنية لمواجهة مثل هذه الحوادث. لكن حين جاء الفيضان الحقيقي، لم نجد اللجنة ولم نسمع عن اجتماعاتها ولا حتى عن تواجد ميداني لها في القرى التي غمرتها المياه.

لم يأتِ الفيضان من فراغ فمنذ بدأ تشغيل سد النهضة الإثيوبي بشكل منفرد ودون تنسيق مع دول المصب تغيّر ميزان تدفق المياه في مجرى النيل ومع كل موسم أمطار جديد على الهضبة الإثيوبية تتبدّل مواعيد ونسب الفيضانات فيفيض النهر فتغرق قرى وتتشقق أراض وتضيع محاصيل بأكملها هذا العام، كانت المنوفية الضحية الأوضح لذلك الخلل ان ارتفاع منسوب المياه لم يكن ظاهرة طبيعية فقط، بل نتيجة مباشرة لفوضى إدارة المياه في حوض النيل، حيث لا تملك مصر الآن رفاهية التنبؤ بما سيأتي من السد الإثيوبي أو متى سيُفتح أو يُغلق.

في ظل هذا الوضع، كان من الطبيعي أن يكون لدى الحكومة خطط استباقية واضحة لمواجهة أي ارتفاع مفاجئ في المنسوب، لكن الذي حدث أظهر العكس تمامًا. فبينما كانت صور الغرق تنتشر على صفحات السوشيال ميديا  كانت الأجهزة الرسمية غائبة، وكأن إدارة الدولة تخلّت عن فكرة المتابعة الميدانية واعتمدت فقط على التحذيرات الإعلامي  المفارقة هنا أن الأزمة التي تمتد جذورها إلى إثيوبيا وتصل آثارها إلى قرى المنوفية لم تُقابل بخطة متكاملة، بل بخطاب رسمي يكتفي بتحذير المواطنين دون أي حلول او بدائل .

في كل مشهد غرق ظهر من المنوفية، كان الغائب الأكبر هو الدولة. لا وجود لفرق إنقاذ ولا تحركات من وزارة الري أو الداخلية أو المحافظات رغم أن الأزمة لم تقع فجأة، بل سبقتها تحذيرات رسمية عن ارتفاع منسوب النيل ومع ذلك، تُرك المواطنون وحدهم يواجهون الطوفان. مشاهد الرجال الذين يحملون أثاثهم فوق رؤوسهم، والنساء اللاتي يحاولن نقل الأطفال إلى أماكن مرتفعة، كانت كافية لتكشف أن منظومة إدارة الأزمات في مصر ما زالت على الورق فقط.

فالقرار الوزاري الذي أصدرته الحكومة بتشكيل اللجنة القومية لإدارة الأزمات والكوارث، يفترض أنه يمنح هذه اللجنة سلطات وصلاحيات تنسيقية واسعة بين الوزارات والهيئات وأنها الجهة المسؤولة عن وضع خطط الطوارئ وتنفيذها فور وقوع أي حادث يهدد الأرواح أو الممتلكات. لكن لا أحد سمع عن هذه اللجنة في لحظة الغرق لا بيانًا باسمها ولا زيارة ميدانية ولا حتى إعلانًا عن تفعيلها وكأنها لجنة ولدت بقرارٍ بيروقراطي لتجميل المشهد لا لتدير أزمة حقيقية.

هذا الغياب لا يمكن اعتباره مجرد تقصير إداري فحين يتحول القرار الوزاري إلى ورقة مؤرشفة، وحين تُترك القرى لمصيرها بلا إنقاذ ولا دعم، يصبح السؤال الحقيقي  لماذا تُنشأ اللجان أصلًا إذا كانت لن تُفعّل عند وقوع الكارثة؟

الأزمة هنا لم تكن في ارتفاع المياه وحده، بل في الطريقة التي تُدار بها الأزمات في مصر. فحين تغيب الرؤية المسبقة وتتحول إدارة الكوارث إلى رد فعل متأخر، يصبح كل فيضان كارثة متكررة لا دروس تُستخلص منها. ما حدث في المنوفية لم يكن مفاجئًا، فكل المؤشرات المائية منذ شهور كانت تشير إلى زيادة محتملة في منسوب النيل مع موسم الأمطار في الهضبة الإثيوبية، ومع ذلك لم تتخذ المحافظات أي إجراءات وقائية، ولم تُجرَ عمليات تطهير شاملة للترع والمصارف، ولا تم إعلان خطط إجلاء واضحة للسكان في المناطق المنخفضة.

غياب الإدارة المسبقة كشف أن مؤسسات الدولة، رغم ما تمتلكه من إمكانيات بشرية وفنية، لا تزال تتعامل مع الكوارث بعقلية التسعينات، حين كانت الأزمات تُدار بالتليفون لا بالخطط. والنتيجة أن المواطن هو من يدفع الثمن دائمًا الأرض تغرق، المحصول يضيع، والبيوت تتصدع، بينما تتحرك الدولة ببطء بعد فوات الأوان. الأخطر أن هذه الكوارث لم تعد طبيعية بالكامل، فالتغير المناخي وسد النهضة أعادا تشكيل الخريطة المائية للنيل، ومع ذلك لم تتغير أدوات الدولة في مواجهتهما. لا خطط حقيقية للتكيف، ولا تمويل كافٍ للمحليات، ولا استعداد لمواجهة سيناريوهات أسوأ.

 ما بعد الغرق لا ينبغي أن يكون صمتًا جديدًا، بل مساءلة حقيقية. فالمشهد الذي شهدته المنوفية لا يخص قرى بعينها، بل يعكس خللًا في منظومة كاملة يفترض أنها وُجدت لحماية الناس وقت الأزمات. حين تختفي الدولة في لحظة الخطر، وتُترك القرى لتدافع عن نفسها، فإن الأمر لا يمكن اختزاله في تقصير إداري أو بطء في الاستجابة، بل هو فشل في صميم فكرة الدولة نفسها بوصفها جهة تُنظّم وتحمي وتستجيب.

من حق المواطنين أن يعرفوا ما الذي جرى بالضبط  لماذا لم تُفعّل اللجنة القومية لإدارة الأزمات؟ ومن المسؤول عن غياب فرق الإنقاذ؟ وما حجم الخسائر الحقيقية في الأراضي والمنازل والمحاصيل؟ هذه الأسئلة ليست للجدل، بل للمحاسبة. لأن دولة لا تراجع نفسها بعد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *