حسن البربري يكتب: عسكرة العالم ودعم الاستبداد.. قراءة في تقرير الاتحاد الدولي للنقابات
استشعارًا منه بخطر اليمين المتطرف، قام الاتحاد الدولي للنقابات منذ عام 2024 بإطلاق حملة عالمية من أجل الديمقراطية، صاحبها إصدار أول قائمة بالشركات المُقوِّضة أو المعادية للديمقراطية، وهي مجموعة تُختار سنويًا من الشركات التي تنتهك حقوق العمال والنقابات العمالية، وتتهرب من المسئولية الاجتماعية، وتُقوّض الإرادة الشعبية والسياسية، بل وتستثمر أرباحها في دعم اليمين المتطرف وسياساته على نطاق واسع. ولقد أصدر الاتحاد الدولي تقريره الثاني لعام 2025، والذي كشف عن العديد من الحقائق حول قائمة الشركات المعادية للديمقراطية، والتي احتوت على أكبر 7 شركات ما بين تكنولوجية وصناعية. ورأى التقرير أن الشركات السبع، وهي: أمازون، وميتا، وتسلا، وفانغارد، وبلاكستون، وإكسون، وجلينكور، لعبت دورًا كبيرًا في نمو العسكرة حول العالم بتحالفها مع قوى اليمين المتطرف المتصاعد في أمريكا وأوروبا خاصة.
فقد أشار التقرير إلى أن شركة أمازون استضافت بانتظام فعاليات لصناعة الأسلحة، وتسوّق نفسها كـ”أمازون للمحاربين”، مما منحها عقودًا بقيمة 1.2 مليار دولار مع غوغل والكيان الصهيوني لتعميق مراقبة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، مما يجعلها شريكة في الإبادة التي حدثت منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 من خلال دعمها للبنية السحابية لمشروع “نيبموس” التجسسي. كما أنفقت الشركة حوالي 19.1 مليون دولار على الحكومة الأمريكية لكي تحتفظ بكونها مقاولًا رئيسيًا لصناعة السلاح، في ذات الوقت الذي تتعرض فيه الشركة لعقوبات في دول مثل البرازيل وكندا وفرنسا والهند وغيرها نتيجة انتهاك الخصوصية وحقوق العمال كالأجور وساعات العمل. وبلغت تلك العقوبات حوالي 1.16 مليار دولار ما بين غرامات وأحكام قضائية. وهكذا تحولت تلك المنصة المشهورة بأنها منصة للبيع والتجارة إلى واجهة لنظام عسكري رقمي.
أما شركة ميتا، فرصد التقرير تحولًا في سياستها منذ إعادة انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، ودعوة ترامب لمالك الشركة مارك زوكربيرغ في حفل تنصيبه، وجلوسه في الصفوف الأمامية. أما سياسات ميتا فقد بدأت بدعم الخطاب اليميني المتطرف وبقوة، حيث كشفت عن شبكة واسعة من المعلومات المضللة يديرها مكتب الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو لتحسين صورته أمام الرأي العام ونشر محتويات مضللة عن المعارضة. وليس هذا فقط، بل قدمت أدوات مراقبة متخصصة للحكومة الصينية، هذا بخلاف فجوة الأجور وساعات العمل التي يعانيها موظفو الشركة.
وتأتي “نورثروب غرومان” — المقاول الرئيسي لبرنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات — ليكشف التقرير عن تورطها في تدريب مقاتلين بقيادة سعودية في اليمن، في الوقت الذي ألزمت فيه عمالها بالتوقيع على اتفاقيات عدم إفشاء حتى تتمكن من مراقبة مدفوعات ضرائبهم الخاصة، مما دفع العمال إلى رفع دعاوى ضد الشركة وتغريمها بما يقارب 779 مليون دولار لانتهاكها خصوصية العمال وقوانين الأجور وساعات العمل في أمريكا عام 2022.
أما “سبيس إكس”، فقد خرجت من كونها شركة فضاء إلى كونها جزءًا من البنية العسكرية الدولية؛ فالأقمار الصناعية التي تطلقها الشركة توفر اتصالات آمنة تُستخدم في النزاعات المسلحة، وتتيح للإدارات العسكرية إدارة مسارح العمليات عن بُعد. كما أن مالك الشركة يستخدم نفوذه السياسي والإعلامي لتمويل حركات يمينية قومية في الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية، مما يجعل الشركة ليس فقط منتجًا للخدمات الفضائية، بل لاعبًا سياسيًا وعسكريًا.
وتأتي “أندوريل” لتقدم الوجه الأكثر وضوحًا للعسكرة الحديثة، فهي تنتج أنظمة مراقبة ذاتية التشغيل وطائرات بدون طيار وأجهزة ذكاء اصطناعي يمكن استخدامها على الحدود وفي الشوارع وفي ملاحقة المهاجرين وفي حماية المنشآت الحيوية. وهي تكنولوجيا توفر للسلطات أدوات غير مسبوقة لقمع الاحتجاج وضبط السكان والسيطرة على الحيز العام.
إن هذه الشركات لا تدعم العسكرة فحسب، بل تعيد تعريف الدولة نفسها. فحين تصل الحكومات اليمينية المتطرفة إلى السلطة، تتراجع المؤسسات الديمقراطية، ويجري الهجوم على النقابات، وتخفيض الضرائب على الشركات، وتوسيع العقود العسكرية، وقطع التمويل عن البرامج الاجتماعية، وتغيير القوانين لتسهيل عمل الشركات وتوسيع نفوذها. وفي كل ذلك تلعب هذه الشركات أدوارًا مباشرة من خلال الضغط السياسي، والدعاية، وتمويل الحملات الانتخابية، وإدارة البيانات التي تؤثر في عملية صنع القرار.
ويقدم تقرير الشركات المقوضة للديمقراطية صورة مرعبة لنظام عالمي تتداخل فيه الحكومات مع الشركات، وتتحول فيه التكنولوجيا إلى جيش رقمي يتحكم في السلوك البشري، وتتحول فيه الاستثمارات إلى وسيلة لتمويل الأنظمة القمعية، وتتحول فيه الحرب إلى عملية دائمة ومنخفضة التكلفة تُدار عبر الحدود دون جيوش نظامية ودون إعلان رسمي.
لقد أصبح العالم ميدانًا مفتوحًا لحرب غير مرئية تديرها الشركات العملاقة التي تملك القدرة على مراقبة الشعوب، والتأثير في وعيها، وتوجيه قراراتها، وحتى التأثير على نتائج الانتخابات. وهكذا تصبح الديمقراطية شكلًا فارغًا بينما تنتقل السلطة الحقيقية إلى الشركات التي تتحكم في البيانات والسلاح والفضاء والإعلام والمال، وتعيد تشكيل العالم وفقًا لمصالحها.
وهذا يعيدنا إلى الفكرة الأساسية: إن العسكرة ليست مجرد خيار سياسي، بل أصبحت المنطق الذي يحكم كل شيء، من الاقتصاد إلى الإعلام، ومن التكنولوجيا إلى العلاقات الدولية. وهي عملية تتقدم بسرعة، وتستند إلى تحالف قوي بين الشركات الكبرى واليمين المتطرف والأنظمة الاستبدادية التي تجد في هذه الشركات أدوات لتعزيز سلطتها، بينما تجد الشركات في هذه الأنظمة بيئة مثالية للتوسع دون رقابة أو حساب.
أمام هذا المشهد، يصبح مستقبل الديمقراطية مرتبطًا بقدرة العمال والمجتمعات على إعادة بناء تنظيماتهم، والنضال ضد هذا التحالف بين العسكرة والشركات الكبرى، وإعادة طرح السؤال البسيط: من يحكم العالم؟ وكيف؟ ولمصلحة من؟ وما هو دور الشعب في زمن تتحول فيه التكنولوجيا إلى جيش لا ينام، وتتحول فيه الشركات إلى سلطة عليا تتجاوز القانون والدستور والحدود؟

