حسن البربري يكتب: شركات توريد العمالة: كيف يتحول الأجر إلى مساحة تلاعب

لم يكن قرار وزير المالية رقم 5/5 لسنة 2025، الخاص بإعادة تعريف الوعاء الضريبي لخدمات توريد العمالة، مجرد إجراء محاسبي، بل كان لحظة كاشفة عن اختلال أعمق في سوق العمل؛ اختلال لا يظهر في النصوص الرسمية بقدر ما يتجسد في كشوف أجور العمال الذين يعملون من الباطن لدى شركات التوريد. هؤلاء العمال ظلوا لسنوات يدفعون ثمن غموض تشريعي وتراخٍ رقابي سمح للشركات بأن تنقل أعباءها إليهم تحت مسميات متعددة دون مساءلة.

عند النظر إلى نموذج أجر فعلي لعامل رفض ذكر اسمه قبل صدور القرار، تتضح الصورة كاملة؛ فالعامل يبدو على الورق أنه يحصل على دخل 5700 جنيه، لكن تفكيك هذا الرقم يكشف أن الأجر الأساسي نفسه أقل من الحد الأدنى للأجور، ويتم تعويض هذا النقص ببدلات انتقال وحوافز متغيرة لا تشكل أساسًا مستقرًا للحق في الأجر، ولا تدخل بكاملها في حساب التأمينات. هذه الصيغة ليست بريئة بل مقصودة، لأنها تسمح للشركة بالالتفاف على الحد الأدنى للأجور مع الحفاظ على شكل خارجي يوحي بالالتزام.

الأخطر أن كشف الأجر يظهر خصم ضرائب كسب عمل من العامل، رغم أن دخله الفعلي يقترب من حدود الإعفاء الضريبي، بل وقد لا يتجاوزها في بعض الحالات، ما يعني أن الخصم يتم إما بالمخالفة للقانون أو دون شفافية كاملة حول ما إذا كانت هذه الضريبة تُورد فعليًا لمصلحة الضرائب أم لا. وفي جميع الأحوال، لا يحصل العامل على أي مستند ضريبي يتيح له معرفة موقفه القانوني أو المطالبة بحقه.

ولا يقف التلاعب عند هذا الحد، بل يظهر بند التسويات السلبية كأحد أكثر الأدوات غموضًا، حيث يتم خصم مبالغ معتبرة دون شرح أو سند واضح. هذا البند المطاطي أصبح وسيلة جاهزة لامتصاص أي فروق مالية أو تحميل العامل تكلفة أخطاء إدارية لا علاقة له بها، وهو ما يحول الأجر إلى رقم قابل للتآكل في أي وقت. في المقابل، تعرض الشركة في نفس الكشف ما تسميه مزايا تتحملها، مثل حصة الشركة في التأمينات الاجتماعية أو الضريبة المستحقة عليها قانونًا، ويتم تقديم هذه الالتزامات وكأنها منحة أو تكلفة إضافية تتحملها الشركة من أجل العامل، بينما هي في الحقيقة واجبات قانونية لا يجوز تحميلها للعامل، لا صراحة ولا ضمنًا. هذا الخطاب يعيد تعريف الحقوق على أنها أفضال، ويبرر استمرار الأجر المنخفض.

هنا تتقاطع أهمية القرار الضريبي الأخير مع واقع الأجور؛ فالقرار أقر بوضوح أن الأجور وما في حكمها لا تدخل في وعاء ضريبة القيمة المضافة، وأن ما يخضع للضريبة هو فقط مقابل خدمة توريد العمالة ذاته. وبذلك سقطت الذريعة الأساسية التي كانت تستخدمها شركات التوريد لتبرير خصم مبالغ من أجور العمال بحجة العبء الضريبي. لكن ما حدث على الأرض أن هذا التصحيح لم ينعكس على أجور العمال، ولم يؤدِّ إلى إعادة هيكلة حقيقية لكشوف المرتبات.

النتيجة أن الشركات حصلت على تخفيف فعلي في أعبائها الضريبية، بينما ظل العامل يتقاضى نفس الأجر أو أقل بعد الخصومات نفسها، وكأن القرار لم يصدر، وكأن العامل ليس طرفًا في المعادلة. هذه المفارقة تكشف أن جوهر الأزمة لا يكمن فقط في النصوص، بل في غياب أي آلية تلزم الشركات بتمرير أثر القرارات المالية إلى العمال، أو تراقب التزامها بالحد الأدنى للأجور وبقواعد الخصم القانوني. وما يكشفه نموذج الأجر ليس حالة فردية، بل نمطًا متكررًا في سوق العمل غير المستقر، حيث يتحول العامل من صاحب حق إلى رقم داخل كشف حساب، ويتحول القانون إلى سقف نظري لا يصل إليه أحد في الواقع. وفي ظل استمرار هذا الوضع، يصبح العامل هو الممول الخفي لسياسات الدولة وهوامش ربح الشركات في آن واحد؛ يدفع من أجره ضرائب لا يعرف مصيرها، ويتنازل عن إجازاته، ويتحمل تسويات غامضة دون أن يملك أداة دفاع.

القرار المالي فتح الباب لكشف هذا التناقض، لكنه لم يغلقه بعد؛ فبدون ربط واضح بين السياسات الضريبية وحماية الأجور، وتطبيق الحد الأدنى، وشفافية الخصومات، سيظل العامل من الباطن هو الطرف الذي يتحمل كل شيء، ولا يحصل على شيء سوى كشف راتب لا يعكس حقًا ولا أمانًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *