حسن البربري يكتب: البروليتاريا خارج الكادر.. قراءة في رسالة ريهام طاهر
نشأت السينما المصرية في مطلع القرن العشرين في ظل الاحتلال الإنجليزي لذا فهي ولدت محافظة و غير ثورية وقد ظهر اول فيلم سينمائي روائي و تسجيلي عام 1923 وهو فيلم ” في بلاد توت عنخ أمون ” بطولة الفنان المصري فوزي الجزايرلي و مجموعة من الممثلين من الجالية الإيطالية في مصر و تأليف و اخراج المحامي فيكتور ريستو و من هنا بدأ تاريخ السينما التي تحولت عبر العقود إلى أداة في يد الطبقات المسيطرة تحافظ على النظام الاجتماعي أكثر مما تهزه أو تنتقده هذه هي الخلاصة التي تنبع من رسالة الماجستير التي أعدتها ريهام طاهر إمام بالجامعة الأمريكية في القاهرة بعنوان سينما البروليتاريا تمثيل الطبقة العاملة في السينما المصرية على مدى 80 عاما
الرسالة التي اعتمدت على منهج نوعي وتحليلات معمقة ومقابلات مع مخرجين ونقاد وأساتذة سينما من أجيال مختلفة تطرح سؤالًا جوهريًا ظل غائبًا عن النقد السينمائي المصري هل قدّمت السينما المصرية صورة حقيقية للطبقة العاملة أم ساهمت في إعادة إنتاج الصور النمطية التي ترسخ دونيتهم وتبرر استغلالهم
تبدأ الباحثة من نقطة رمزية هي فيلم الإخوة لوميير خروج العمال من المصنع أول فيلم في تاريخ السينما العالمية الذي صوّر لحظة انتهاء يوم العمل ليعلن منذ ميلاد الفن السابع أن العمال هم أصل الحكاية لكن مع انتقال الكاميرا إلى مصر ومع تشكل صناعة السينما منذ عشرينيات القرن الماضي كان مصير هؤلاء العمال أن يظلوا خارج الكادر أو في خلفيته
تتتبع الرسالة بدقة مراحل تطور السينما المصرية عبر خمسة عصور أساسية الملكية وعبد الناصر والسادات ومبارك ثم ما بعد الثورة لتكشف كيف اختلفت صورة العامل من مرحلة إلى أخرى لكنها لم تتحرر يومًا من نظرة فوقية أو محافظة, ففي العهد الملكي مثلًا ندرت الأفلام التي تناولت حياة العمال باستثناء أعمال محدودة مثل “الورشة” سنة 1940 وهو اول فيلم يتحدث عن العمال بعد مرور 17 سنة من ولادة السينما المصرية وفيلم “العامل” سنة 1943 وغالبًا ما كانت تعالج الفقر بوصفه قدراً أخلاقيًا وتقدس الصبر لا التمرد وتقدم العمل كفضيلة روحية لا كحق اجتماعي
ومع مجيء ثورة يوليو وانحياز الدولة الناصرية نظريًا للعمال انتقلت الصورة إلى النقيض ظاهريًا فصار العامل بطلاً رمزيًا في أفلام مثل الأرض وباب الحديد لكن هذا التمجيد كان في جوهره تمجيدًا للدولة ذاتها لا للطبقة العاملة كقوة اجتماعية مستقلة فالسينما صارت أداة لتثبيت خطاب السلطة الوطني الاشتراكي أكثر مما كانت تعبيرًا عن هموم العمال أنفسهم وقد رأت الباحثة في ذلك مفارقة عميقة أن السينما في زمن عبد الناصر احتفت بالعامل لكنها نزعت عنه صوته الفردي وحولته إلى رمز دعائي
ثم جاءت مرحلة السادات بما حملته من سياسة الانفتاح الاقتصادي فحدث الانقلاب الكبير على الصورة القديمة صار العامل في أفلام السبعينيات والثمانينيات إما نصابًا أو كسولًا أو جاهلاً أو ساذجًا تُستغل طيبته لصالح البرجوازي الجديد من أعمال تلك الفترة التي استشهدت بها الباحثة أبو كرتونة 1991 وأهالي القمة 1981 وغيرها من الأفلام التي رسمت الطبقة العاملة باعتبارها عائقًا أمام التحديث ومصدرًا للفوضى الأخلاقية وهكذا تحولت شاشة الشعب إلى منبر لتبرير سياسات السوق وشيطنة كل ما هو جماعي
تستند الدراسة إلى مقابلات مع مخرجين كبار مثل خيري بشارة وأحمد فوزي وأومار الزهيري وآخرين ممن رأوا أن الرأسمال المنتج هو المتحكم الأول في الخطاب السينمائي فالفيلم في النهاية مشروع تجاري قبل أن يكون عملًا فنيًا وإذا كان الجمهور من الطبقات الوسطى والعليا هو من يدفع ثمن التذكرة فمن الطبيعي أن تخاطبه السينما بلغته لا بلغة العامل الذي لن يجلس في الصالة أصلًا ومن هنا تفسر الباحثة كيف تم تهميش الطبقة العاملة ليس فقط كمضمون بل كمتلقٍ أيضًا
تناقش الرسالة كذلك فكرة الصورة النمطية التي رُسمت للعامل المصري بين الطاعة والاحتيال بين الخضوع والمكر فتقول إن السينما صنعت نموذجين متناقضين للعامل العامل المطيع الذي يقبل مصيره والعامل الانتهازي الذي يريد الصعود السريع وكلا النموذجين يخدمان النظام الاجتماعي نفسه لأنهما يلغيان إمكانية الوعي الطبقي أو التمرد الجماعي على ظروف العمل المادية والرمزية
وفي فصل كامل تتناول الباحثة مفهوم الوصم الاجتماعي أو Stigmatization باعتباره نتيجة مباشرة لهذه الصورة فحين تكرر السينما أن العامل جاهل أو صاخب أو قذر فإنها لا تخلق تسلية بل تصنع معرفة زائفة عن فئة كاملة من المجتمع تتحول مع الوقت إلى قناعة جماعية هذه القناعة تبرر الفقر وتبرر غياب العدالة وتحوّل الطبقة المنتجة إلى طبقة مُدانة في الوعي العام
أحد أهم إسهامات الرسالة هو قراءتها للسينما كنظام ثقافي يخضع لتوازنات القوى الاقتصادية والسياسية لا كمجرد فن معزول فهي ترى أن عملية الإنتاج السينمائي في مصر كانت دومًا مرآة لبنية السلطة بدءًا من شركات الاستوديو الملكي وحتى احتكار رأس المال الخاص في الألفية الجديدة ومع الخصخصة تراجعت الأفلام الاجتماعية لحساب الكوميديا الخفيفة وأفلام البذخ والاستهلاك التي تكرس قيم السوق والنجاح الفردي على حساب القيم الجماعية
الرسالة أيضًا تضع إطارًا نظريًا يعتمد على نظريتي المرآة والإطار Framing and Mirror Theory الأولى تفسر كيف يصوغ الفيلم الأحداث داخل قالب محدد يوجه المتفرج إلى معنى بعينه والثانية تتساءل هل السينما مرآة للمجتمع أم أداة لتشكيله والباحثة تميل إلى الإجابة الثانية فهي ترى أن السينما المصرية لم تكتف بعكس الواقع بل أسهمت في صناعته وفق رؤية النخبة الاقتصادية والسياسية التي تمولها
وتنتهي الدراسة إلى خلاصة صريحة أن السينما المصرية على مدى 80 عامًا لم تكن منحازة للطبقة العاملة بل كانت جزءًا من خطاب محافظ يعيد إنتاج السلطة الطبقية حتى في أكثر لحظاتها واقعية وأن القليل فقط من المخرجين كيوسف شاهين وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح حاولوا كسر هذا القالب ولو جزئيًا لكنهم ظلوا استثناءً في تيار عام تسيطر عليه قواعد السوق وتوازنات الدولة
ما يلفت النظر في هذا العمل الأكاديمي أنه لا يتعامل مع السينما كظاهرة جمالية فحسب بل كحقل صراع اجتماعي بين من يملك الصورة ومن يظهر فيها وبهذا المعنى تصبح دراسة ريهام طاهر إمام واحدة من الأعمال القليلة التي تقرأ السينما المصرية من منظور طبقي صريح تعيد الاعتبار للعمال كفكرة وكحضور مفقود وتطرح سؤالًا مفتوحًا أمام صناع اليوم هل يمكن أن تولد سينما جديدة من قلب المصانع لا من مكاتب المنتجين
فإذا كانت السينما مرآة المجتمع فربما آن الأوان أن نكسرها لنعرف من الذي يقف خلفها لا أمامها
في العقدين الأخيرين اختفى العامل من الشاشة كأنه لم يعد جزءا من هذا البلد صارت السينما المصرية تدور حول الطبقات المترفة وسكان الكومباوند وتجار العملات والنجوم الذين يعيشون في أبراج زجاجية بعيدة عن الشوارع والورش والمصانع حتى الأفلام التي تحاول الاقتراب من الواقع تفعل ذلك بعيون برجوازية ناعمة تحن إلى الماضي أو تشفق على الفقراء من علٍ لا من داخلهم ومع صعود المنصات الرقمية وتحول الإنتاج إلى يد الشركات الخاصة الكبرى أصبح التهميش مضاعفا فالمنصات تخاطب جمهورها القادر الذي يملك الإنترنت والاشتراك الشهري أما العامل الحقيقي فقد صار متفرجا خارج الإطار لا يجد نفسه في أي حكاية ولا في أي بطل ولا حتى في خلفية المشهد
وهكذا يتأكد ما خلصت إليه الرسالة أن السينما المصرية لم تكن فقط مرآة طبقية بل تحولت إلى جدار يفصل بين المنتج الحقيقي للثروة وبين من يحتكر صورتها وأن استعادة العامل إلى الشاشة ليست ترفا فنيا بل ضرورة اجتماعية كي تستعيد السينما دورها كذاكرة المجتمع لا كأداة ترفيه في يد رأس المال.

