حسن البربري يكتب: اتفاقية جماعية للصحفيين نحو عقد عادل يحمي المهنة والعاملين بها
لم تكن الصحافة يوما مجرد مهنة تمارس من اجل الراتب ولا هي وظيفة عادية تخضع لمنطق السوق وحده الصحافة في جوهرها عقد اخلاقي بين الكلمة والناس بين الحقيقة والضمير لكن هذا العقد المقدس الذي قامت عليه المهنة منذ نشأتها لم يجد حتى اليوم انعكاسا في شكل عقد اجتماعي او مهني منظم بين الصحفيين واصحاب المؤسسات الصحفية يحمي حقوق العاملين ويضمن كرامتهم ويضع حدودا واضحة للعلاقة بين الطرفين
اليوم ومع صدور قانون العمل الجديد رقم 14 لسنة 2025 اصبحت الحاجة ملحة اكثر من اي وقت مضى لان يكون للصحفيين اتفاقية جماعية تنظم اوضاعهم داخل المؤسسات الصحفية وتوفر اطارا قانونيا حديثا يراعي خصوصية المهنة ويستجيب لتحدياتها بدلا من استمرار الفوضى التي جعلت الصحفي في كثير من الاحيان بلا امان وظيفي ولا ضمان اجتماعي ولا حد ادنى حقيقي من الحماية
الصحفي الذي يقضي عمره في الدفاع عن حقوق الناس وكشف الفساد والانتهاكات هو نفسه اليوم ضحية نظام عمل هش لا يوفر له الحد الادنى من الحماية القانونية او التأمين الاجتماعي بل يعامله كثير من اصحاب المؤسسات كمتعاون او فريلانسر بلا عقد ولا تأمين حتى داخل الصحف الكبرى هذه المفارقة لم تعد مقبولة لا اخلاقيا ولا مهنيا خصوصا بعد ان اصبح لدينا قانون عمل جديد يفترض انه يضمن العدالة لجميع العاملين
من هنا تأتي اهمية ان تتبنى نقابة الصحفيين بصفتها الممثل الشرعي للمهنة مبادرة صياغة اتفاقية جماعية وطنية للصحفيين تكون طرفا فيها امام اصحاب المؤسسات الصحفية وتبرم بضمانة من الجهة الادارية المختصة وزارة العمل بحيث تصبح هذه الاتفاقية ملزمة وتدرج بنودها في اللوائح الداخلية لكل مؤسسة صحفية
الاتفاقية الجماعية ليست مجرد نصوص قانونية انها اعلان نوايا جماعية لاعادة الاعتبار للصحافة كمهنة قائمة على العمل الشريف والحقوق الواضحة يجب ان تتضمن الاتفاقية بنودا واضحة حول الحد الادنى للاجور في المؤسسات الصحفية وتدرج العلاوات السنوية وتحديد ساعات العمل الفعلية والاجازات والتأمينات وحق الصحفي في بيئة عمل امنة وفي التدريب المستمر وفي حرية الرأي دون خوف من الفصل او العقاب الاداري
كما ينبغي ان تنص على آليات عادلة لتسوية النزاعات عبر لجنة مشتركة من النقابة والمؤسسات الصحفية والوزارة تضمن الا يكون الصحفي وحده في مواجهة مؤسسة ضخمة تمتلك المال والنفوذ هذه اللجنة يمكن ان تكون بمثابة محكمة مهنية مصغرة تحل فيها النزاعات قبل ان تصل الى القضاء وتعيد التوازن للعلاقة المختلة بين صاحب العمل والعامل في الحقل الصحفي
لكن قبل ان نحلم بالاتفاقية علينا ان نواجه الواقع الذي تعيشه المؤسسات الصحفية اليوم فاغلب الصحفيين يعملون بعقود مؤقتة او بدون عقود اصلا بعضهم يقبض بالقطعة او بالمادة المنشورة وبعضهم ينتظر شهورا ليحصل على مرتبه في حين تتأخر المؤسسات في صرف الاجور بدعوى الازمة الاقتصادية وفي بعض الصحف الاقليمية والصحف الالكترونية الصغيرة يعمل الصحفيون بأجور لا تتجاوز بضعة آلاف جنيهات دون تأمين صحي او اجتماعي ودون اي التزام بمعايير السلامة المهنية
خلال السنوات الاخيرة شهد الوسط الصحفي اكثر من واقعة احتجاج ووقفات امام النقابة كان اخرها احتجاجات العاملين في صحيفة البوابة ومجلة العمل وفي بعض الصحف القومية الاخري بسبب عدم تطبيق الحد الادني للأجور و تدني قيمتها بل وتاخر صرفها مع الحوافز و المكافات والبدلات بل ان وصل في احدي المؤسسات ان تحايلت علي تطبيق الحد الادني للأجور بان اضافت لشريط الرواتب للصحفيين بدل النقابة الذي لادخل للمؤسسة الصحفية به
هذه الوقائع ليست مجرد حوادث عابرة لكنها تعبير عن ازمة هيكلية في سوق العمل الصحفي ازمة غياب التنظيم الجماعي وضعف النقابة امام نفوذ اصحاب المؤسسات وغياب الدولة عن دورها الرقابي والحمائي هنا تصبح الاتفاقية الجماعية ضرورة لا تحتمل التأجيل لانها ببساطة تنقل العلاقة من منطق المنحة والترضية الى منطق الحق والالتزام
الاتفاقية الجماعية يجب ايضا ان تراعي واقع التنوع في اشكال العمل الصحفي اليوم من الصحف الورقية الى المنصات الالكترونية ومن الصحفيين الدائمين الى المراسلين والمحررين المستقلين فكل هؤلاء في النهاية يمارسون المهنة ذاتها ويخضعون لنفس الاخطار ومن ثم يجب ان تشملهم بنود الحماية دون تفرقة او استثناء
ولاننا نتحدث عن مهنة الكلمة فان حرية الصحافة يجب ان تكون بندا اصيلا في الاتفاقية فلا يمكن حماية الصحفي من الاستغلال المادي دون حماية حريته المهنية ولا يمكن فصل الحق في الاجر العادل عن الحق في التعبير لذلك من الضروري ان تنص الاتفاقية على ضمان استقلالية العمل التحريري وعلى عدم جواز معاقبة الصحفي بسبب آرائه او مواقفه المهنية طالما التزم بمواثيق الشرف الصحفي والقانون
هذه الاتفاقية لن تكون ترفا بل ضرورة وجودية فبدونها ستظل العلاقة بين الصحفي وصاحب المؤسسة علاقة قائمة على الهشاشة والاستغلال لا على الشراكة والمهنية واذا كانت الدولة جادة فعلا في تطبيق قانون العمل الجديد بروحه لا بنصه فقط فعليها ان تدعم توقيع مثل هذه الاتفاقيات القطاعية التي تترجم العدالة الى واقع ملموس
ولعل هذه المبادرة ان وضعت موضع التنفيذ تكون بداية لاستعادة شيء من الاحترام المفقود لمهنة الصحافة التي كانت يوما ضمير الامة وصوتها فالعقد الجماعي ليس مجرد اوراق موقعة بين النقابة واصحاب المؤسسات بل هو خطوة نحو اعادة التوازن بين الكلمة ورأس المال بين الصحفي والمؤسسة بين الحقيقة والمصلحة
لقد تعب الصحفيون من الوعود ومن الحديث عن الحرية دون حماية وعن الرسالة دون ضمانات آن الاوان ان ننتقل من الكلام الى الفعل وان نضع اول اتفاقية جماعية تليق بالمهنة وتعيد الاعتبار لمن يمسكون القلم ويدفعون ثمن الكلمة من اعمارهم وصحتهم ومستقبلهم
وهنا يأتي الدور المنتظر من نقابة الصحفيين التي يجب ان تتحرك فورا لاعداد تلك المفاوضة الجماعية ولفتح حوار رسمي مع وزارة العمل واصحاب المؤسسات الصحفية حوبها ولوضع جدول زمني لتوقيع الاتفاقية الجماعية للصحفيين على ان تكون شاملة وملزمة لكل المؤسسات وشفافة في بنودها هذه الخطوة ليست مطلبا فئويا بل ضرورة وطنية لاعادة تنظيم واحدة من اهم المهن في المجتمع لان حماية الصحفي في النهاية هي حماية للكلمة نفسها ولحق المجتمع في معرفة الحقيقة

