“حاكم” الجميل وداعا .. سلم على أحباب حديقة النقابة
كارم يحيى:
علمت متأخرا صباح اليوم الأربعاء 3 يوليو 2024 بوفاة الصديق والزميل الجميل فنان الكاريكاتير السوداني المصري الأستاذ محمد حاكم.
وهو لمن لا يعلم أحد أيقونات جيل سبقني لهذ الفن المميز بصحافة مصر، و”روزا اليوسف ” على الأخص. وهذا عندما كانت تتنفس قدرا من الحرية وتتمتع بمناخ سماحة، و”تعافر” هي بالقلم والريشة وبحبر المطابع كي تفك ولو قليلا ربطة عنق رسمية عن العنق. وتوسع من هامش حرية التعبير، لو تعاقبت قيود نظام شمولي تسلطي منذ 1954. وهو للأسف مناخ يعز حاليا .
الصحفي الفنان حاكم بالنسبة لي ليس فقط مجرد صفحات بذاكرة بصرية وجدانية معرفة ووعي اجتماعي سياسي فني منذ كنت بسنوات الإعدادية والثانوي، ثم كلية إعلام جامعة القاهرة ( قسم صحافة)، وبطول عقد السبعينيات.
بل هو حياة ملموسة تجلجل في رحابه ضحكته مرتديا ملابسه بتأنق. هي إذن “عشرة عمر” مع إنني أصغره بنحو 14عاما، و حياة تتدفق، ولا أقول (تدفقت) عبر لقاءات بلاحصر بمقر نقابة الصحفيين. ومع أن مبناها تجدد ومحيطها تغير، وتقلصت فراغاتها وماتت رحابتها. ولم تعد كما كانت حديقة نفتح ببابها الحديد لندخل، فنكتشف كم هو لين هين مؤنس.
منخفض كان الباب، يكشف لنا ونحن أمام النقابة على الرصيف، وحتى بنهر الشارع، عن الأصدقاء الزملاء، وأمامهم “فناجين” القهوة وأكواب الشاي، وحتى وجبات غذاء “عم حسن” المشبعات (أم 5 جنيه .. وربما عاصرتها وهي أقل سعرا).
لا يمكنني تذكر أو حصر كم مرة تناقشنا وقوفا أو جلوسا، ثنائيا أو مع أحباب غادرونا. وأتذكر من بينهم الآن الأساتذة : إبراهيم يونس وإسماعيل المهدوي ورشاد القوصي و سعاد منسي وسعد التايه وسمير تادرس وكامل زهيري و موسى جندي ونادر عدلي ( وفق ترتيب الأحرف الأبجدية).
وبالطبع الراحل الحبيب الصديق الأستاذ مصطفى طيبة، والذي أخاله هو الذي عرفني إلى الأستاذ حاكم على نحو أكثر قربا وحميمية، وقدمه بقدره ومكانته لهذا الشاب الذي كنته.
وهذه الأسماء الحبيبة ماسمحت به الذاكرة الآن، ولاشك أن هناك كثيرين آخرين يحملون عبق سنوات أصبحت بعيدة.
ولا أنسى في هذه اللحظة، حوارا مطولا مع الأستاذ حاكم في ليلة شتوية بالنقابة وقد تأخرن عن المغادرة، حين روى لي بتفاصيل مدهشة، ولم أعد أتذكرها للأسف، قصة نضاله الطويل من أجل الحصول على الجنسية المصرية المستحقة.
وإذ ألوم نفسي أنني لم أقدم على ماعاهدتها مرارا بأن أجرى معه حوارا مطولا عن حياته ومسيرته في الصحافة والفن، سأظل أنادي ولن أيأس أن تضطلع نقابة الصحفيين المصريين بواجبها المؤجل، المتهاون في حقه وحقوقنا وأجيال ستأتى. وهي أن تبادر إلى التسجيل بالفيديو مع الزميلات والزملاء الذين يتقدم بهم العمر وقبل أن يغادرونا. سأظل أنادي، وأسف يتجدد مع نبأ كل من يرحل.
*
وأظن أن الأستاذ حاكم من الصحفيين القلائل، مع الراحلة الحبيبة الأستاذة سعاد منسي ( رائدة تأسيس وكالات أنباء أهلية ومصورة بمصر *)، هما آخر من ظل بجيلهما متعلقا بمقر النقابة مع تبدل مبانيها، وتقلص فضاءاتها.
وطالما قلت للنفس: غابت الحديقة الجميلة الدافئة ولم يغيبا، وبخاصة عن كافيتريا النقابة بالدور الثامن الأخير.
كنا ( الأستاذ حاكم وأنا) كثيرا نلتقى بين طاولات الكافيتريا، أو نبادر بالسلام عند المرور بها. وأظن آخر مرة لم تكن بعيدة، أو هكذا أخالها.
سألته : إزيك يا أستاذ؟
فأجاب إجابة مقتضبة، بدا خلال السنوات الأخيرة أنه يوفر بها طاقته وأنفاسه المنهكة، وكأنه يناور ويعالج ما تبقى من صحة:
ـ الحمد لله.
ابتسم في وجهى كعادته بود ومحبة وحنو، وكأنه يتحسس آلام الروح في مهنة تخاصم الممسكين بجمر المهنية وتعاندهم ، وقالها ككل مرة :
ـ وانت أزيك، عامل إيه؟.
*
رحم الله الذي أحببناه، وأحببناهم.
والسلام أمانه “ياعم حاكم” لمن غادرنا تاركا على عشب حديقة النقابة وترابها آثار أقدام وحياة وأفكار نابضة وكلمات جريئات.
فمازلت لليوم أظن أن قهوتهم تنتظر، ولم تبرد بعد. يفوح منها رائحة “بن”، لم يكن “مغشوشا” أو “مراوغا” و” منافقا كاذبا”، ولا بطعم من حكم ويحكم وسيحكم.
.. سلام يا “عم حاكم” الذي لم يحكم ويتحكم ويتسلط،
لا على زملائه أو قرائه وناسه.
..أنتم السابقون ونحن اللاحقون وقريبا.
صباح الأربعاء
3 يوليو 2024