جمعة رمضان يكتب: في الحروب.. الفقير أول من يدفع وآخر من يقتسم!
كطفل في الصف الثاني الابتدائي لا اذكر من حرب اكتوبر ٧٣ سوى فرحتي بتعطل الدراسة والعودة للسهر مع أقراني حتى الفجر نلهو على جسر طراد النيل المحاذي لقريتنا الصغيرة، ونستمتع بالليالي الرمضانية المقمرة ضاربين بتحذيرات الأهل عن خطر طائرات العدو المغيرة عرض الحائط.
لم تمنعنا صافرات الخفراء الموحشة وصيحاتهم المحذرة ” طفي النور، طفي النور “، ولا تحذيرات الصبيين جمال وعاطف ابني عم سالم المهاجرين من السويس ان نلتقط اية اشياء غريبة ملقاة في الطريق خشية ان تكون شراك متفجرة ألقتها طائرات العدو أو عملائه، لم تمنعنا تلك المخاطر المُحتملة أن نعيش طفولتنا وأن نباشر لهونا وشقاوتنا، نتسلق نخيل البلح الخضراوي، العابنا الفولكلورية – شيكا على العالي، دارك ، البعجة، جرجر هاتو (شد الحبل)، الطرطقة، واستغماية (تزداد اثارتها بمشاركة البنات !) وغيرها من العابنا الريفية التي اندثرت .
وحده عاطف ابن عّم سالم المهاجر السويسي حينما يخرج إلى الجسر نتوقف عن اللعب، نتفرغ مشدوهين لمشاهدة حركاته البهلوانية وبراعته في السير على يديه عشرات الأمتار وسط نظرات الاعجاب والغيرة، نشارك المسحراتي جولته وقد خلت اضطراراً لأول مرة من فانوس زميلنا ابن تاجر المواشي الثري – في المواسم الرمضانية السابقة كثيرًا ما تنافسنا لإرضائه ببعض البلح أو الحلوى كي يمنحنا متعة حمل الفانوس خطوات قليلة – ننهي جولة المسحراتي ونعود لبيوتنا تسبقنا لهفتنا لوجبة السحور، نلتقط لقيمات البتاو المبلول مع فول الدماسة الغارق في السمن البلدي، مع تباشير الصباح نبدأ في تقاسم العمل اليومي المعتاد في القرية المصرية (تنظيف الدار”غرفة لمبيت المواشي” ورفع الاوحال ونقلها الى كوم السباخ خارج البيت واعادة تهيئة الدار مرة اخرى بالتراب الجاف ، نخرج المواشي الى مستقرها النهاري على رأس الغيط ثم ننخرط في اعمال الفلاحة المعتادة)، وهكذا حتى الضحى أو بعده قليلا ثم نذهب إلى النوم وقد جفت حلوقنا من العطش، وهو مالم نكن نطيقه فنستعين برخصة النسيان او بالاحرى التناسي ونرطبه خلال غُطس في ماء النيل او بكوز من ماء الزير البارد ونواصل الصوم.. فالله يعفو عن كثير كما اعتاد شيخ الكتاب القول ردا على معاتبة البعض له تدخينه السجائر!
اسبوعان مرا على الحرب قبل ان تكتسي القرية برداء الحزن على اول شهيد وتوقفنا عن اللعب مشاركةً لجارتنا الصبية شديدة الحسن حزنهاً على حبيبها الشهيد ( كثيرًا ما كانت تزهو بازازة الريحة السكريه وطقم البنس اللذين اهداهما لها في آخر اجازة له قبل الحرب )، في اليوم السابق على ورود خبر استشهاده كانت قد جمعت بعض الرطب الذي يحبه واحتفظت به !
اذكر ضجري من مداومة خالي الأكبر العابس المتجهم دوماً على استعارة الراديو ” تليمصر” خاصتنا والذي من خلاله تعلق ذهني باسماء أشهر السياسيين والدبلوماسيين في العالم وقتئذٍ خاصة (كيسنجر – جروميكو – كورت فالدهايم) من كثرة تردد اسمائهم في نشرات الاخبار .
السادات في عيون الشعب
توقفت الحرب وعدنا الى المدرسة نتبارى في رسم العلم، نترجم بألواننا الزيتية الفقيرة ماتخيلناه عن معارك الدبابات والطائرات والجنود الابطال وبنادقهم على صفحات كراسات الرسم (عودة الى صديقنا ابن تاجر المواشي الثري وقد غالبه الطبع حين رسم الطائرات اسفل الصفحة تعلوها الدبابات وهي تطلق قذائفها في اتجاه السماء!)، تغنينا بالنصر وابطاله خاصة السادات (بطل العبور) وهو من كان قبل اقل من عام محط سخرية المدرسين وشيخ الكتّاب وأغلب اهالي القرية، حتى نحن الأطفال كثيراً ما رددنا مطلع أغنية شهيرة للمطربة عايدة الشاعر أمعن خصوم السادات في تحوير كلماتها لتاخذ شكل تقريعي ساخر( فاتلك ايه يا صبية عبدالناصر لما مات.. فاتلي ** من المنوفية اسمه أنور السادات ) – مع الاعتذار طبعا- فهكذا كان حضور السادات في قلوب الناس وقتئذٍ، لا مؤيد ولا نصير له عند المقارنة بسلفه عبدالناصر قبل يوم النصر، واذ فجأة يتغير الحال بعد النصر ويصير بطلاً وتجاور صوره صورة عبد الناصر بعد ان كانت تدنوها في بيت العمدة او حجرة ناظر المدرسة، او غائبة بالمطلق عن جدران المنادر وواجهات المنازل المحتلة تقريبًا بصور ناصر وأم كلثوم، وهكذا كان حال أهل قريتي وما احتفظت به ذاكرة طفل في السابعه من عمره او يزيد قليلاً .
الاولون في جبهات الموت الآخرون في دروب الحياة
يمر عام ونيف ويرحل الجميلان جمال وعاطف واسرتهما عائدين الى السويس في مشهد حزين لا ينسى مع وداع غاية في الشجن ونحن نكرر مطلع اغنية ” يا بيوت السويس “، جارتنا الجميلة وقد قاربت الخمسة عشر، وقد عبرت ايامها الحزينة على استشهاد حبيبها تزف الى ابن عمتها العائد من ليبيا، وعروس جميلة أخرى أتت من بلدها البعيد على ظهر الفرس لتزف الى جارنا الذي أنهى خدمته العسكرية بعد سنين طويلة شارك خلالها مقاتلاً في حرب اليمن والاستنزاف وحرب اكتوبر، يحكي الناس عن بطولته ونجاته من الموت باعجوبة بعد إصابة دبابته التي تغولت بين أرتال دبابات العدو، وكثيرا ماكان يكشف لنا ظهره مفاخراً بآثار الحروق التي إصابته والشظايا التي استقرت في أنحاء جسده، وغصة لازمته حين أُلحق بوظيفة بحار ( مشرف على توزيع وتنظيم حصص مياه الري في الترع الفرعية وتنظيفها) كمكافأة له على سنين عشر قضاها مقاتلاً في مختلف الجبهات، لا يختلف وضعه عن وضع ثلاثة آخرين من اهالي القرية عُيّن اثنين منهم فراشين في المدرسة، وعُيِّن الثالث رشاش طرق وقد أمضى ثلاثتهم نفس المدة الطويلة على جبهات القتال، ربما كانت أجورهم تكفيهم حينها ظروف العيش البسيط في الريف وإعالة اسرهم بالكاد لكنها ابداً لم تكن تليق وتضحياتهم العظيمة سنوات طويلة على جبهات القتال، وكأنه مانيفستو خالد قد أملته السماء في شأن الكادحين وتشبثت به طبقة الحكام وتجار الحروب.. الاولون في جبهات الموت الآخرون في دروب الحياة !
في غبش فجر شتوي قارس سنة ١٩٩١ أذكر انني حفرت تلك الكلمات الموجعة بعد نحو ربع قرن من حرب اكتوبر وحوالي نصفها على اتفاقية السلام، حفرتها على الجدار الإسمنتي لبرج ٣ اثناء نوبة خدمة شنجية بوحدتي العسكرية التي امضيت فيها فترة تجنيدي الإلزامية، وكنت ساعتها أمر بحالة نفسية سيئة جداً ربما لاسباب متعلقة بكثرة الخدمات التي كُلِفنا بها نحن عرايا الظهور والبطون وحرماننا من الاجازات كأقراننا من اصحاب الوساطة الذين لم نر بعضهم الا يوم تسليم المخلة، او ربما لاسباب قد أعود وأذكرها يوماً ما في ظروف مؤاتية عن لحظة موجعة مضت تخص زميلي ورفيق سلاحي وشبيهي المحلاوي صاحب العينين الزرقاوين الذي خرج من دروب الحياة ، حياة تجرع علقمها وحده حتى الموت !