جمعة رمضان يكتب: الغول والعنقاء والتحول الديمقراطي!
عبثًا حاولت التكهن بطبيعة ” الجمهورية الثانية ” الموعودة والوقوف على ماهيتها، جديدها على صعيد الحريات والحقوق الساسية والاقتصادية والاجتماعية والتحول الديمقراطي فلم أجد للهدي سبيلا.
طلبت المدد من أهل المدد وأصحاب الكرامات فلم تُقض حاجتي، بل زيد الأمر التباسًا وتعقيدًا، إذ غُم عليّ جوابهم وقد أتى مبهمًا غارقًا في الغموض والأسرار والفيوضات على طريقة مولانا العارف بالله ابراهيم أبو حسين قدس الله سره !
فقد عاجلني أولهم الذي عنده علم من كتاب اللّوع: اشرب .. لازم تشرب
– أشرب ايه يا مولانا ؟
أقداح مشعشعة من عجب العجاب !
يطلع أيه عجب العجاب دا يا مولانا ؟
متسألش .. دي اسرار بقى !
أما ثانيهما فكان أكثر بهللة وهو ينتفض في وجهي مقتضبًا: حييييي مدد.. المدفونة تكسر المحرات.. ولم يزد !
تركت السادة البهاليل أو بالأحرى تركوني وقد طفح الكيل وزاد الميل واستعص العقل المجهد عن تعويم الافكار الجانحة في قنواتي المعنوية !
كشري الجمهورية
اتصلت بصديقي المثقف المستنير الغضوب وطرحت عليه مناقشة أمر “الجمهورية” فضرب لي موعدًا على “كشري الجمهورية” مفضلًا فرعه الجديد، الأحدث طرازًا وأفخم واجهة وديكورًا وأغلى أسعارًا مقارنة بفرعه الشعبي القديم الذي اعتدنا ارتياده عند الطرف الثاني من الكوبري الذي يربط شطري المدينة .
وصلت محل الكشري الفخيم متأخرًا قليلًا عن الموعد المتفق عليه، لمحت صديقي جالسًا في احد أركانه يجادل النادل بصوت مرتفع فيما يبدو انه يطلب منه تخفيض صوت او اطفاء جهاز التلفاز المعلق بجواره على الحائط، يبث خطبة دينية تحكي فضل الجهاد واهوال الجحيم بصوت طفل خليجي مزعج، وقد نجح صديقي المستنير على مضض فيما اراد رغم تبرم الجرسون وبعض رواد المطعم !
جلست متبسمًا اطالع قسمات وجهه المنبسط قليلًا بعد عبوس، هممت بالسؤال واستجلاء تفاصيل الامر فلم يترك لي المجال ومال على اذني هامسًا ؛ الدرس الاول من زخائر مولانا ميكيافيلي : ثمة أمان أكثر في أن يخشاك الناس من أن يحبوك خاصة مع هؤلاء الذين يظنون ان إلهًا لا نقتل ولا تسفك الدماء من أجله لا يعول عليه !
انتهينا من ازدراد اطباق الكشري والحلو وخرجنا بعد أن دفعت أنا الحساب صاغرًا .. عبرنا الكوبري آخذين وجهتنا مشيًا صوب المقهى الشعبي الذي اعتدناه على مقربة من فرع ” كشري الجمهورية ” القديم، أمسك صديقي المستنير طرف الحديث مشفقًا وقد أزعجه حالي : أتسألني عن ماهية ” الجمهورية الثانية ” ؟ .. عجيب امرك يا صاحبي .. يواصل بسمت نيتشوي : ظننتك على قدر من العقل والفطنة.. انه الكشري، لا شئ سوى الكشري الذي أكلناه منذ قليل في فرع الجمهورية الجديد، فهل لمست اختلافًا بين قديمه وجديده الا في الديكورات والكوبري الفاصل بينهما ؟ قولت : لا، نفس الخلطة ، نفس الدقة ، نفس المذاق المعتاد وان كانت الشطة حراقة اكثر بالاخير مع تغيير الحلو من رز بلبن الى مهلبية !
اصطنع بدوره ابتسامة شاردة ثم قال : خلاص اطفح وانت ساكت يا مواطن وحاذر فقط من عنف الشطة والشرطة وحلّي بالمهلبية ، ثم انظر حولك ولا تجهد عقلك في البحث عن جديد أو تأمل في تغيير او تحول ديمقراطي او انفراجة سياسية أو زيادة مرتبات او ما شابه، تعمق قليلًا في قراءة المشهد السياسي فهو لا يختلف عن الكشري بحال ..أحزاب هلامية مخلقة ومضروبة في معامل السلطة، جري اختيار اعضائها وتشكيل هيئاتها وتصعيد قيادتها وفق معايير وحسابات طبقية بالغة الفجاجة والعقم كيفما اتفق، مع نظام انتخابي هذلي يكاد يحسم النتائج بالتزكية مقدما لصالح تلك الاحزاب العبثية ومن تأبط شرها وراق له السير في ركابها من شماشرجية المعارضة المستأنسة وقد أغوتهم العطايا فآثروا الانحناء واتقان عجين الفلاحة، متمثلين جميعهم قول الشاعر :
لا تعبدن صنمًا في فاقة نزلت .. وازفن بلا حرج للقرد في زمنه !
فماذا تنتظر وفيما تجهد قلبك وعقلك ؟
قولت مستدعيا مقولة البهلول، حقًا : المدفونة تكسر المحرات
فزاد هو: وتوقع القطورات وتوقف المراكب السايرة !
انتهينا من مشروبنا المعتاد ” قهوة مغلية ع الريحة ” وانصرفنا متواعدين بلقاء جديد يجمعنا ثانية حول اطباق الكشري والمهلبية .
أقوال الزنادقة
عدت ادراجي ودلفت الى مكتبتي ألتمس شيئا من انوار السادة الزنادقة المتمنطقين بالعقل والعلم والفلسفة لعلي اظفر بما احاطوه علمًا وعقلًا فكان جوابهم كالاتي :
نقلًا عن ول ديورانت .. كان كوندرسيه ( فيلسوف وعالم رياضيات وسياسي فرنسي عاش في القرن الثامن عشر ) يبشر بنظام اجتماعي عادل ومزدهر عزاه الى جهود مفكري واحرار القرن الثامن عشر العظام وعلى رأسهم جون جاك روسو وفولتير وما استخلصوه من شروط عقلية واجتماعية لتحرر المجتمعات ؛ كالتعليم العام، وحرية الفكر والتعبير، والمساواة أمام القانون، واعادة توزيع الثروة، لكنه ( كندروسيه ) مستدركًا أبدى خشيته ان تؤدي سذاجة الجماهير الى تمكن قلة غنية او قوة فاشية من تلقينهم آراءهم متى شاءت، ومن ثم يسقط المجتمع تحت سيطرة أوليجاركية برجوازية او قوى فاشية تتستر وراء واجهة ديمقراطية او دينية او شوفينية .
أما الرفيق ماركس – الذي حلت ذكرى وفاته منتصف الشهر الجاري – فقد بيّن في تحليله لطبيعة الامبراطورية الفرنسية الثانية ان المؤسسات والنخب التي تتمتع بامتيازات اجتماعية معينة وتمتلك ادوات العنف وفوق ذلك غير مقيدة بأية شروط سياسية لا تستطيع معها تجنب الميل التلقائي الى اخضاع الكيان الاجتماعي بأكمله لمصالحها الضيقة وتعزيز أوضاعها المتميزة دون ان تبالي بالمصالح الاستراتيجية للكيان الاجتماعي الذي تخلقت منه، موضحًا ان هذا الميل الاستعلائي يؤكد وجوده في وقت يمر فيه المجتمع بمرحلة انتقال، او نقطة التقاء بين مرحلتين، ومن سمات هذه المرحلة ضعف الطبقات الاساسية في المجتمع .
يضيف ماركس : لقد اضطر بونابرت تبعا لذلك ان يخلق الى جوار الطبقات الاجتماعية التقليدية طبقة جديدة منتقاة من رفاقه المحاربين، هذه الصفوة المنتقاة لا يمكنها الحفاظ على امتيازاتها حال انقسام السلطة ومن ثم فلا سبيل للحفاظ على تلك السلطة سوى احتكارها .
مشهد ختامي
” وحين جفت الينابيع وانحبس الماء عن أهل المدينة نهاراً وليلة، رق قلب الرب، فأوعز الى الراع فأرسل فنطاساً يجوب المدينة، فتزاحم الناس حول الفنطاس، كلُُ يحمل اناءه، وكنت وسطهم احمل قارورة فارغة، هبط سائق الفنطاس كثيف اللحية وصاح في الحشود : من جاء يطلب الماء للوضوء واللحاق بصلاة الجمعه فليتقدم اولا ولينتظر العطشى الأنجاس، ولا تتركوا العطش ينسيكم الدعاء للراع بطول العمر .. سبقت الجميع هاتفاً : طال عمره طال عمره، وزدت : طال عمرين عمره ” !