جمعة رمضان يكتب: الطبيب الوزير النبوي المهندس.. (في ليل الجائحة يفتقد البدر)
ليالي مدن الحظر
كانت الساعة قد جاوزت
الثانية والنصف بعد منتصف الليلة الثالثة من الحظر، لم تعد فناجين القهوة الاربعة
قادرة على صد غزوات النعاس المتوالية، يبدو النعاس في سطوته كالفيروس الجائح، كرًّات
من الهجوم المتواصل على حصون الانتباه حتى تنهار المقاومة ويستسلم الجسد، والنوم
ما أحلاه لغيري من خليي البال، تحركت في محاولة افاقة اخيرة متثاقل الخطى علّني
التمس انتعاشة من هواء البلكونة وصمت المدينة المحظورة، قبل ان أهُم بغلق جهاز
اللاب توب وأرضخ صاغرًا لسلطان النعاس، وقد استيأست سؤال محرك البحث الجوجولي أن
يعطيني بعض مما ألقمته فيوض العقل البشري ويشبعني بمادة تعينني على الكتابة عن احد
قادة الجيش الابيض العظام، فلا يظهر لي سوى عشرات شوارع ومدارس باسم ” النبوي
المهندس” لا تخلو منها مدينة مصرية، اللهم الا أسطر قليلة على موقع ويكيبديا، قبل ان يأتيني بعض
الفرج على حين غرة في آخر محاولة بحثية ممثلا في كتاب ” صنايعية مصر ”
للكاتب الصحفي عمر الطاهر ، وجدتها وجدتها.. هكذا صحت كما صاح ارشميدس في القرن
الثالث قبل الميلاد ، وجدتها وسط هذا الجدب المعلوماتي وعثرت على بعض يسير مما
يليق بهذا الفذ العظيم مجزل العطاء لمصر واهلها الطيبين .
وهذا ما تمخض بعد ساعتين متواصلتين من البحث عن مادة تعيننا في الكتابة عن هذه
الشخصية العظيمة التي لو قدر لها ان تكون بيننا الان لكفتنا على الاقل أمران :
– انف السيدة المهذبة وزيرة الصحة خارج الكمامة
– كوفتة ومكرونة السيد عبعاطي .
ذات مساء ربيعي من العام 2013 في مقر (سابق) لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، قريبا
من موقف بولاق بالجيزة ، حاضرنا استشاري القلب ومنسق لجنة الدفاع عن الحق في الصحة الدكتور
محمد حسن خليل لاكثر من ثلاث ساعات متواصلة عن تلك الشخصية الثرية التي لم نسمع
بها من قبل، نسينا اسمه وسط انجازاته العظيمة التي ظل يعددها الدكتور خليل، لعل
اعظمها مشروع الـ 3000 وحدة صحية ريفية والتي افتتح بنفسه منها 2500 بالفعل، وصنفتها
منظمة الصحة العالمية ضمن أفضل المشاريع التنموية الصحية في العالم حينها ( اوائل
ستينيات القرن الماضي ) .
الحل يبدأ من عند أصحاب الشأن
تحت عنوان ” صنايعي صحة مصر ” يكتب الصحفي عمر الطاهر :
” قبل نهاية الخمسينيات أعلن الاطباء المصريون عدم رضاهم عن حال الطب والخدمات الصحية، كان اضرابهم تحت قيادة نقابة الاطباء، قرر عبد الناصر أن يبدأ الحل من عند أصحاب الشان ، فاختار سكرتير النقابة النبوي المهندس وزيرًا للصحة ”
ولانهم كانوا بالفعل أصحاب شأن من اهل الكفاءة والمعرفة والخبرة المهنية فهم بالضرورة كانوا الادرى بهموم المهنة وهم الارقى حساً بهموم المجتمع هكذا كانت تُسير وتُعالج الامور قبل 60 عام في شأن القضايا الاجتماعية والاقتصادية ( ولا أقول السياسية )، وهو برأي العين وبأوجاع الناس ما لا أثر له الان لا في الاجتماع ولا في الاقتصاد ولا في السياسة ( طبعًا) ..ولله الامر
نعود الى ماسطره الطاهر ” عمر الطاهر ” :
” اقتحم المهندس ( الوزير الطبيب ) المجال من رؤية واسعة لفكرة الصحة، غير فلسفة انشاء المستشفيات، وضع شكلا جديدًا وقتها مازال العمل به ساريا : المستشفيات المتخصصة، العيادات الخارجية، طعام المستشفى يتم اعداده في المستشفى، قوة المكان من قوة هيئة التمريض فيه، دعم الممرضات والحكيمات مهنيًا وماديًا، تحويل الاسعاف الى وحدة عمل مستقلة، بعيدًا عن ميزانية المستشفيات، فأسس – الكلام لايزال للطاهر – فأسس بهذه الفكرة هيئة قوية بمحطات لاسلكي واجهزة تنفس صناعي ونقل دم، وتحول الاسعاف من سيارة لنقل المصابين الى مكان للعلاج السريع” .
يضيف الطاهر : ” كان ( المهندس ) يؤمن بفكرة الوقاية وأسس حملات التطعيم في مصر، وأغلق الباب مبكرًا أمام اوبئة وامراض كثيرة مثل الدرن، وصارت حملات التطعيم مشروعًا مستقلًا ” .
باختصار وكما اورد الطاهر ” كان المهندس يؤمن ان صحة الوطن قائمة على صحة المواطن ، كان يريد عن طريق الطب أن يشارك في البناء ”
اهم انجازاته :
- الوحدات الصحية الريفية (3000 وحدة ريفية في عموم قرى مصر)
- – 10 مستشفيات كبرى في المناطق الحضرية
- معهد القلب
- مشروع التامين الصحي
- مشروع تنظيم الاسرة
- حملات التطعيم ضد شلل الاطفال
- هيئة الاسعاف
- معهد السمع والكلام
- تصنيع الدواء
وأخيرًا نتسائل مع الكاتب : هل يمكنك أن تتخيل ما
أسس له النبوي المهندس في هذا البلد في أقل من 10 سنوات ؟!!
سيرته الذاتية والعملية :
- ولد الدكتور محمد النبوي المهندس في مدينة جرجا بمحافظة سوهاج المصرية بتأريخ 17 يناير 1915، وأكمل فيها دراسته الإبتدائية والثانوية، ليلتحق بعدها بكلية الطب في جامعة القاهرة، وتخرج منها حاملاً شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة عام 1940، ثم أكمل دراسة الدبلوم والدكتوراه بإختصاص طب الأطفال في الجامعة المذكورة عام 1945، وتعين فيها مدرساً فأستاذاً مساعداً فأستاذاً لطب الأطفال بمستشفى أبو الريش للأطفال في القاهرة.
- شارك الدكتور المهندس منذ بداية خمسينات القرن العشرين بالعديد من النشاطات النقابية في مصر، ليعتلي بعدها منصب سكرتير مجلس إدارة نقابة الأطباء لثلاث دورات متتالية (1950-1961). خلال عمله ذاك .
- – لعب المهندس دوراً بارزاً في إنشاء الجمعية المصرية لطب الأطفال، وقام بأبحاث هامة في مجالات سوء التغذية وأمراض الكبد عند الأطفال، وتعاون مع كبار علماء عصره في هذا المجال، وعلى رأسهم الدكتور (إيميت هولت الإبن)، الأستاذ البارز في مجال طب الأطفال وأمراض سوء التغذية بجامعتي جونز هوبكنز ونيويورك المرموقتين. كما نظم أول مؤتمر إقليمي لطب الأطفال في مارس 1960، وأختير من قبل منظمة الصحة العالمية للإشراف على دراسة طب الأطفال في جامعات مصر، إضافة لعضويته في شعبة العلوم الطبية بالمجلس الأعلى للعلوم .
- في 18 أوكتوبر 1961، أختار الرئيس المصري جمال عبد الناصر المهندس لشغل منصب وزير الصحة في مصر، كما أصدر قراراً بتعيينه رئيساً لمجلس إدراة المؤسسة العامة للأدوية، إضافة لعمله أستاذاً بطب القاهرة ورئيساً لجمعية الهلال الأحمر.
- قام الدكتور محمد النبوي المهندس بإنجازات عديدة خلال عمله كوزير للصحة، منها إقامة ما يزيد على 2500 وحدة طبية في ريف مصر، والإشراف على برنامج تنظيم الأسرة، وإنشاء أولى مراكز شلل الأطفال والقلب وتأهيل السمع والبصر في البلاد. قام المهندس كذلك بإرساء الحجر الأساس لمركز الأبحاث والرقابة الدوائية، وأطلق برنامج التحصين الإجباري ضد مرض الخناق وشلل الأطفال، وأفتتح أولى المعاهد التدريبية العليا لإختصاصات التمريض والعلاج الطبيعي، وكان أول من يزود سيارات الإسعاف بأجهزة التنفس الإصطناعي ونقل الدم. إضافة لإفتتاح المراكز الصحية في الأرياف، قام المهندس بإفتتاح أكثر من 10 مستشفيات كبرى في المناطق الحضرية لمصر، واضعاً بذلك الحجر الأساس لنظام الإحالة بين مراكز تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية والثانوية والثلاثية.
– تمخض النشاط الأكاديمي للمهندس عن 54 بحثاً علمياً في مجالات التغذية وأمراض الكبد عند الأطفال، وشارف على تدريب المئات من الطلاب والأطباء والأكاديميين في المجال الطب
– توفي الدكتور محمد النبوي المهندس إثر تعرضه لنوبة قلبية مفاجئة بتأريخ 3 أغسطس 1968، فكان لوفاته أثر الصدمة على الأوساط الحكومية والشعبية المصرية، وشعيت جنازته من قبل مئات الألوف من الجماهير الغفيرة، وفاءً لخدماته الطبية والأكاديمية الجليلة في مصر. كما أقدم الرئيس المصري (عبد الناصر) بمنحه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى بتأريخ 19 ديسمبر 1968، إضافة إلى منحه جائزة الدولة التقديرية والميدالية الذهبية في 10 يوليو 1971.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
1 – عمر الطاهر ، ” صنايعية مصر” ، دار الكرمة للنشر 2017 ، من ص 247 الى ص 252
2 – موقع ويكيبيديا