تهجير بدعوى التطوير| العوامات التاريخية.. عن مأساة إزالة “بيوت النيل” وذكريات العمر بـ”جرة قلم حكومية”
كتب- محمود هاشم
“أنا مولودة في عوامة وعشت عمري كله فيها، بقيت عاملة زي السمكة لو طلعت من المياه أموت، أنا بعت اللي ورايا واللي قدامي علشان أشتري العوامة دي، وهي كل ما أملك، أنا فاضل لي قد إيه في العمر؟ يسيبوني أموت فيها وبعدها أتنازل لهم عنها، أو ياخدوها بعد ما أموت يعملوها زي ما هم عايزين، أو يزيلوها وأنا فيها بقى”، بهذه الكلمات شرحت السيدة إخلاص حلمي جانبا من معاناتها بعد قرار السلطات المحلية إزالة عائمتها السكنية، ضمن ما يقارب 32 عائمة أخرى على صفاف نهر النيل في محافظة الجيزة.
رئيس الإدارة المركزية لحماية النيل في وزارة الري أيمن أنور، أعلن أن الجهات المسؤولة تلقت “قرار دولة” بإزالة العائمات السكنية على ضفاف النيل بالبر الغربى لمحافظة الجيزة من منطقة العجوزة وحتى منطقة الكيت كات، بدعوى مخالفتها القانون وعدم حصول أصحابها على تراخيص المراسى، في الوقت الذي من المقرر الإبقاء على العائمات السياحية، مضيفا أن قرار إزالة العائمات تأخر 6 سنوات منذ صدوره في عام 2016، وصدور قرار لاحق في بداية 2020 بعدم تجديد تراخيص أي منها، حسب قوله.
يضيف أنور، في تصريحات تليفزيونية: “العوامات السكنية جار عليها الزمن وتشبه السيارات المتهالكة موديل 1978، والدولة اتخذت قرارات التطوير والحداثة، كما أن مراسيها غير مرخصة، وتم إخطار إصحابها وإرسال إنذار وحجز إداري وحجز بنكي، وتابع: “أصحاب العائمات لا يستحقون التعويض بل هم مدينون برسوم للدولة، نهر النيل ليس ملكا لأحد والمتعدي على ملكية الدولة ليست له دية”.
وتابع: “تم إزالة 3 عائمات تابعة لعناصر من الجماعة الإرهابية، أصحابها هاربون أو حاصلون على أحكام، ويحاولون إثارة الرأي العام، وإحدى العائمات مملوكة لعضو في حركة 6 أبريل، وسيتم إزالتها أيضا”.
يتناقض حديث أنور مع تأكيدات السكان بإخطارهم الجهات المسؤولة لدفع التراخيص، في الوقت الذي ترفض هذه الجهات الحصول على الرسوم تخوفا من تقنين أوضاعهم.
توضح إخلاص لـ”درب”: “شالوا جزء كبير من العوامات وفاضل جزء بيقولوا هيشيلوه اليومين دول، وعاوزين ياخدوا الفلوس والعوامة، إحنا رفعنا دعاوى قضائية ضد قرارات الإزالة ومستنيين يتحكم فيها، المسؤولون مش راضيين ياخدوا مننا فلوس التراخيص وبيدعوا أننا مش بندفع، طيب هما مقدموش شكاوى فينا من ساعتها ليه”.
وأردفت: “أنا عندي 88 سنة، وعايشة معايا كلبة مسنة زيي، وقطط، وشوية وز، مش عارفة أوديهم فين، ولو سبتهم هيموتوا، مين هيأكلهم ولا يشربهم، ومين هيإكلني أنا ولا يشربني، أنا عاوزة أموت في عوامتي، أنا معايا العوامة من أكتر من 20 سنة ودايخين علشان نعمل الرخص، مفيش غير الملاحة النهرية اللي كانت بتاخد مننا الفلوس وتدينا الرخص، والسنة دي صدرت لها أوامر متاخدش فلوس ومتديناش رخص”.
تستحضر إخلاص ذكريات شكلتها على مدار سنوات في العائمة، بينما لا تملك الحيلة للوقوف أمام القرار الحكومي: “عاوزين مننا مليون جنيه وإحنا عايشين في ملكنا، أجيبها منين، أنا دفعت كل اللي حيلتي في العوامة دي، لو راحوا البنك هيلاقوا حسابي مش يكفيني أعيش، يرضي مين الظلم ده”.
إخلاص واحدة من ضمن نماذج عدة من أصحاب العائمات السكنية المهددة بالإزالة، بينما يصرون على استكمال معركتهم للحفاظ على أماكنهم وتجنب سيناريو “التهجير القسري”، حسبما تحكي الكاتبة الروائية الكبير الدكتورة أهداف سويف.
تقول سويف، عبر حسابها على “فيسبوك”: “عوامتي في نيل الكيت كات، وفوجئت منذ أسبوعين بصدور قرار إزالة لها، وبالفعل قطعوا عننا المياه والنور، وإحنا بنحاول نتفاوض لإعادتها نظرا لعدم إخطارنا بالقرار”، مضيفة: “أوامر الإزالة كانت مفاجئة لنا، لكننا منذ أعوام تصدر ضدنا قرارات تهجيرية لإجبارنا على ترك أماكننا”.
وتضيف، في فيديو لها: “المكان ده بيتي اللي عملته على إيدي وحطيت فيه كل حاجتي متصورة أنه هيكون آخر مكان لي، ويتربى ويعيش فيه أحفادي من بعدي، هناك ملاك آخرون ولدوا في العوامات، وعاشوا معظم حياتهم وذكرياتهم بها، ولم تكن تتصور أنها بسبب امتلاكها لها بنظام حق الانتفاع أن تتعرض لتهجير قسري”.
الدولة عرضت على أصحاب العائمات السكنية إمكانية الاحتفاظ بها وتقنين أوضاعها مقابل تحويل ترخيصها من سكني إلى سياحي، ودفع رسوم إضافية، بحسب سويف، التي تتساءل: “هل المطلوب أن نكون مجبرين على تحويل بيوتنا إلى كافيهات أو أماكن سياحية حال رغبتها في الإبقاء عليها”.
وتواصل: “نحن ندفع 3 رسوم للعوامات، الأولى رخصة ملاحة سنوية، ورسم آخر نظير الرسو في النيل، فضلا عن حق انتفاع لهيئة أملاك الدولة نظير المرور على أراضي طرح النهر للوصول إلى العوامات”، مشددة: “وضعنا قانوني تماما التزامات موجودة في النيل منذ ما يقارب 100 عام، وتم تقنين أوضاعها في الستينات، وحصلت على تراخيص بتوصيل المرافق”.
ردت سويف على حديث رئيس الإدارة المركزية لحماية نهر النيل، مع الإعلامي عمرو أديب عبر قناة “إم بي سي”، الذي أكد فيه عدم الاقتراب من العوامات التاريخية، لكنه لم يجد إلا وصف “البخارية”، وتقول أهداف: “البخارية صفة للمحرك، والعائمة ليس لها محرك لأنها مش مطلوب منها الحركة، هي تطفو فقط على سطح النيل وتثبت في المرسى بسلاسل ومصدات من حديد، ولو بندوَّر فعلاً على العوامات التاريخية، فهي تقريبا كل العوامات السكنية لأنها كائنة بمواقعها منذ عقود طويلة، وشهدت أحداثاً وشخصيات تاريخية، وكان لها دور في ثقافة البلاد – ربما كان أحيانا في الماضي دوراً لا يستسيغه البعض الآ”ن.
تحدث أنور عما وصفه بـ”المنظر الحضاري والثقل السياحي” كمبرر لإزالة العائمات، وعلقت الكاتبة الروائية: “حضرتك بص على صفحات زائري القاهرة، وبص على المواقع اللي بتهتم بالحياة على الأنهار وشوف “الثقل السياحي” لعوامات القاهرة. ومعظم العوامات بهية المنظر ولم يبخل عليها أصحابها بالزرع والتجميل، ودعني أقول التجميل الهادئ، ومش محتاجين شهادتي؛ أى مواطن أو مسؤول يقدر يتفضل يتمشى على كورنيش أبو الفدا ويشوف العوامات منورة النيل إزاي”.
واستطردت: “المهندس أيمن بيتكلم عن المناطق العشوائية ليه؟ العائمات أبعد ما تكون عن العشوائية. هي موجودة في مكانها بقرار من رئاسة الوزراء في الستينات، مقننة، ومتوصلة بجميع مرافق المدينة، وبتدفع نور ومية وتليفون، وشكلها زى ما هو بقالها ميت سنة، وأوضاعها قانونية تماما، ومعنا مستندات ملكية مسجلة، ومستندات تراخيص، وإيصالات سداد. الوضع غير القانوني خلقته الأجهزة بقرارها إيقاف التراخيص”.
٦. “الناس دي من ٢٠٢٠ أصبح لا تمتلك رخص بالرسو ولا رخص بالعائمات بتاعتها. لأن العائمات أصبحت متهالكة مالهاش صلاحية فنية”
وردا على تصريح رئيس الإدارة المركزية لحماية نهر النيل بأن أصحاب العائمات لا يمتلكون تراخيص بالرسو أو بالعائمات نظرا لتهالكها، قالت: “أجهزة الدولة – المحافظة ورئاسة مجلس الوزراء – قررت ألا تجدد التراخيص، وأن تشكل لجانا وتبحث الأمر، ولدينا الأوراق التي تثبت ذلك، وتثبت أن عائماتنا ليست متهالكة، وأننا قمنا بكل ما يجب علينا عمله من تأمينات وفحوصات والعائمات جاهزة للترخيص. ولا ننسى أن هذه العائلات ملكية خاصة، وهي تمثل للغالبية منا جزءاً كبيرا من رؤوس أموالنا، وهي عموما موجودة على النيل، في العلن، ويمكن فحصها”.
أما عن حديثه عن تسبب العائمات السكنية في تلوث مياه النيل، أكدت أنه “في الستينات طلبت الحكومة من أصحاب العائمات أن يجهزوها بالصرف الصحي، وقام أصحاب العائمات بهذا، وتم توصيل الصرف الصحي للعائمات بالصرف الصحي للمدينة، وفي تجهيزنا للعائمات نحن نضع أهمية كبيرة للبيئة، فأنا مثلا أستخدم سخان شمسي لتوفير الطاقة، وغيري يوفر مرفأ للطيور، ونحن نطعم السمك ويشهد لنا الصيادون بهذا، كما أننا نملأ المكان بالزرع الأخضر والأعشاب ونرعى الأرض جيدا ونزرع أشجارا مثمرة”.
اتهم أنور أصحاب العائمات بعدم دفع الرسوم المقررة عليهم، واستخدام 70% منها في أغراض غير سكنية، وهو ما ردت عليه سويف بدعوته لزيارة هذه العائمات والتأكد من نشاطها السكني بدلا من الإصرار على سياسة “العقاب الجماعي”، مؤكدة في سياق آخر أن التطوير يجب أن يبنى على قواعد وأصول، أبرزها ألا يؤثر سلبا على السكان، “مش عشان نعصر أكبر كمية ممكنة من الأموال من سكان المدينة تحت كل الظروف وفي كل الأحوال”.
وتعدّ العوامات السكنية أحد أبرز معالم القاهرة، وكانت في السابق تنتشر في مناطق عدة، حتى صدر قرار في ستينات القرن الماضي، بتجميعها في منطقة الكيت كات، وسكن العوامات على مدار تاريخها شخصيات شهيرة وفنانون، بينهم الراقصة بديعة مصابني في فترة الثلاثينات والأربعينات، بالإضافة إلى عوامة منيرة المهدية، التي قالت عنها إنها «كانت تشهد اجتماعات للحكومة»، كما كان لنجيب محفوظ عوامة عاش فيها نحو 25 عامًا، وكتب فيها روايات عدة من بينها «أولاد حارتنا»، كما دارت أحداث فيلم ورواية “ثرثرة فوق النيل” – إحدى أشهر روايات محفوظ في إحدى العائمات أيضا.
تستكمل أهداف: “الإرث اللي حضرتك بتذكره ليس فقط عواطف ورومانسيات، لكنه يشكل جزءاً هاماً وثرياً من هوية المدينة ومما يميزها عن غيرها من المدن في العالم، ومما يجذب السياحة إلى البلاد، لو كان من الضروري أن نذكر المردود المادي له”.
أعلن نشطاء ومعماريون خلال الأيام الماضية رفضهم لإزالة العوامات بالنيل، ودشنوا وسوما على مواقع التواصل الاجتماعي، لرفض قرار الحكومة المتعلق بإزالة العوامات السكنية الراسية على ضفاف النيل، وهو القرار الذي أثار غضب سكانها الذين أكدوا أنها جزء من تاريخ النهر.
الجدل بشأن العوامات بدأ عقب إرسال إنذارات إلى سكان العوامات تفيد بإزالتها على مرحلتين، ليتم إخلاء النهر في الرابع من يوليو المقبل، بدعوى «مخالفة هذه العوامات شروط الترخيص»؛ وهو الأمر الذي نفاه سكانها، مؤكدين أن «الحكومة هي من رفضت منحهم الترخيص على مدار السنتين الماضيتين».
الدكتورة نعمة محسن، واحدة من سكان العوامات، قالت في تصريحات تلفزيونية، إنهم «كانوا يحصلون على تراخيص سنوياً، حتى توقفت الدولة عن منحهم الترخيص بدعوى دراسة تقنين أوضاعهم»، مضيفة: «الحكومة هي من رفضت منحنا الترخيص رغم محاولاتنا على مدار العامين الماضيين، واليوم تفرض علينا غرامات لتأخرنا في إصدار الترخيص، وتصدر قرارات إزالة بحقنا».
وتابعت: «أصبحت مطالبة بترك مسكنها للإزالة، ودفع مبلغ كبير من المال كغرامة، دون الحصول على أي تعويض من الدولة»، وتتراوح قيمة الغرامات المقررة على السكان بين نصف المليون جنيه، والـ900 ألف جنيه، وفقاً للمعلومات المتداولة من الملاك.
الدكتورة سهير حواس، أستاذة التخطيط العمراني، وعضو جهاز التنسيق الحضاري، قالت إن لها ذكريات مع العوامات، مؤكدة: «عشت في واحدة من عوامات الزمالك في منطقة الجبلاية عاماً ونصف العام، خلال فترة العدوان الثلاثي على مصر، في الخمسينات من القرن الماضي، وشهدت العوامة مولد شقيقي».
وقالت في تصريحات نقلتها صحيفة «الشرق الأوسط»: «كانت من أجمل فترات حياتي»، متسائلة عن السبب وراء إزالة العوامات الآن، في ظل كثير من التعديات التي تشوه منظر النيل.
وتابعت: «هذه العوامات جزء من تراث نهر النيل، كما أنها تغطي القبح الذي خلفها لمن يراها من ناحية الزمالك»، معربة عن دهشتها من «صدور قرار إزالة للعوامات السكنية في الوقت الذي يسمح فيه بإنشاء مبان خرسانية ونوادٍ تحجب رؤية النيل وتشوه منظره».