«بي بي سي» تنشر وثائق بريطانية: مصر اقترحت منذ 74عامًا مشروعات مائية مشتركة مع دول حوض النيل قبل أزمة سد النهضة
الوثائق: القاهرة اقترحت أول مشروع مشترك لإنشاء سد على النيل.. وإثيوبيا اشتكت مصر لمنع توصيل مياه النيل لسيناء في عهد السادات
نصر الدين علام: الاتفاقيات التاريخية لاتخضع للأهواء.. والحكم على مدى قانونيتها مكانه التحكيم الدولي
عبد الرحمن بدر
ذكر موقع “بي بي سي”، أن وثائق بريطانية كشفت أنه كانت لمصر، قبل 74 عاما، مبادرات جادة بشأن التعاون المأمول مع دول حوض النيل .
وذكر الموقع في تقرير له، أنه في كل مراحل أزمة سد النهضة الحالية، لم تتوقف دعوات مختلف الأطراف، الإقليمية والدولية، إلى تعاون يحقق المنفعة المشتركة لدول حوض النيل. ورغم قناعة مصر والسودان وإثيوبيا المعلنة بمبدأ التعاون، فشلت المفاوضات الماراثونية، المستمرة منذ سنوات، في التوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة.
وتقول الوثائق، إن مصر لم تُثِرْ فقط مسألة التعاون عن طريق إنشاء مشروعات مشتركة للاستخدام الأفضل لمياه النيل، بل هي التي اقترحت أول مشروع مشترك لإنشاء سد على النيل الأزرق، الذي تقيم إثيوبيا سد النهضة عليه الآن.
ففي عام 1946، اقترحت وزارة الأشغال العامة المصرية ثلاثة مشروعات مشتركة في إثيوبيا وأوغندا وجنوب السودان (دولة جنوب السودان حاليا)، وفق الوثائق.
المشروع الأول عبارة عن سد على الطرف الجنوبي لبحيرة تانا، التي ينبع منها النيل الأزرق، مصدر قرابة 80 في المئة من مياه النيل الرئيسي.
وكان موقع السد المقترح على بعد 1000 كيلومتر على الأٌقل من موقع سد النهضة الذي توشك إثيوبيا على الانتهاء من بنائه قرب حدودها مع السودان.
وفي اقتراحهم، الذي كان ضمن تقرير بعنوان “صيانة النيل مستقبلا”، قال ثلاثة خبراء بريطانيون يعملون لدى الوزارة المصرية، وهم هيرست وبلاك وسيميكا، إن الهدف من السد المقترح هو “تحويل البحيرة إلى خزان يحفظ المياه التي تتدفق إلى النيل الأزرق متحولة إلى فيضانات تجمع الطمي في طريقها”.
ووصف الخبراء مشروعهم بأنه “محاولة لاستخدام الحد الأقصى لإمدادات المياه في التنمية النهائية لمصر والسودان، وللمشروعات المقامة على النيل اللازمة لتحقيق هذا الهدف”.
حينها أبدت بريطانيا، التي توقعت قبل عام 1990 الأزمة الحالية بشأن سد النهضة، تأييدها القوي للمشروع. وفي برقية إلى السفارة في القاهرة، قالت الخارجية البريطانية إن الهدف الرئيسي هو “تخزين المياه في بحيرة تانا للاستفادة منها في موسم الجفاف في حوض وادي النيل”.
وتضيف البرقية، التي أرسلت نسخة منها إلى السفارتين البريطانيتين في أديس أبابا والخرطوم، إن للمشروع فوائد أخرى منها ” تمكين إثيوبيا من توليد احتياطات هائلة من الكهرباء”.
غير أن إثيوبيا لم توافق على المشروع، الذي سُمي مشروع بحيرة تانا، في حينه. ولم تشر الوثائق البريطانية إلى أسباب الرفض.
وبعد عشر سنوات تقريبا، كشفت وثيقة مصنفة “سرية للغاية” عن أن الإثيوبيين كانوا “أكثر اهتماما بمشروع من شأنه توليد الكهرباء لهم أكثر من اهتمامهم بمشروعات، مثل إنشاء سد على مخرج بحيرة تانا، سوف يفيد المصريين والسودانيين”.
وفي الوثيقة التي جاءت ضمن تقرير موجه إلى مكتب رئيس الوزراء، قالت الخارجية البريطانية: “لو أردنا الدفع باتجاه مشروع من النوع الأخير (لإفادة المصريين والسودانيين)، فإنه يتعين علينا أن نرفق اقتراحنا بعرض للمساعدة في إنشاء الأول (توليد الكهرباء للإثيوبيين(.
وتوقع التقرير أن “يرحب الإثيوبيون بأن تجري لجنة فنية مستقلة دراسة مسحية لكل وادي النيل. ومن المحتمل ألا يعترضوا على أن ينظم البنك الدولي هذه العملية”.
غير أن هذا لم يحدث. وبعد نكسة عام 1967، فوجىء المصريون بأن إثيوبيا أنشأت، منفردة، السد وأطلقت عليه اسم “هدار شارا شارا”، دون إبلاغ القاهرة، بهدف توليد الكهرباء.
لم تثر مصر ضجة بشأن السد لأنه لم تكن له أضرار محسوسة على مياهها، كما قال مسؤول مصري سابق، مطلع على ملف المياه، لبي بي سي.
والمشروع الثاني، الذي جاء ضمن تقرير “صيانة النيل مستقبلا”، سماه خبراء وزارة الأشغال العامة المصرية “مشروع النيل الاستوائي”. وهو، وفق تقريرهم، عبارة عن سدين على بحيرتي ألبرت وفيكتوريا (سد شلالات أوين) في أوغندا. وهاتان البحيرتان هما أحد مصادر النيل الأبيض الذي يلتقى مع النيل الأزرق في الخرطوم ليشكلا نهر النيل المار بالسودان ومصر.
وبدأ العمل في سدد شلالات أوين في شهر فبراير 1949. وافتتح أوائل عام 1954 بمشاركة مصر في التمويل. ولا تزال هناك بعثة هندسية مصرية مقيمة في أوغندا حتى الآن لمتابعة عمل السد.
في عام 1980، قدم المجلس العسكري الانتقالي في إثيوبيا شكوى ضد مصر إلى الاتحاد الأفريقي بعد إعلان السادات استئناف العمل في مشروع قديم يهدف إلى توصيل مياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء المصرية.
واستشهدت السفارة البريطانية في القاهرة بمشروع سد شلالات أوين كي توضح للحكومة البريطانية عدم صدق ادعاءات إثيوبيا بأن المشروع يخالف التزامات مصر ويضر بإثيوبيا.
وفي تقرير لها بشأن الخلاف، قالت السفارة “إن مصر واعية تماما بأن التعاون بين دول حوض النيل هو الطريقة الصحيحة لتنمية نهر مشترك. والسد الذي بني على شلالات أوين في أوغندا مثال جيد في هذا الصدد.”
وأضاف التقرير “مصر احتاجت المياه للري بينما احتاجت أوغندا الطاقة الكهربائية. وبروح التعاون وحسن النية في إطار اتفاقية 1929، تعاونت الدولتان لتقاسم تكاليف بناء السد الذي يلبي متطلبات كل من الدولتين.”
ومضى التقرير يقول “هناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي تثبت بوضوح أن مصر مستعدة دائما للتعاون من أجل منفعة كل دول حوض النيل.”
أما المشروع الثالث فهو قناة جونغلي لنقل المياه المسربة من منطقة بحر الجبل وتُفقد في المستنقعات المحيطة بها في جنوب السودان (جمهورية جنوب السودان حاليا). وتبدأ القناة من جونغلي، على بعد 80 كليومترا شمال المنطقة المطلة على بحر الجبل، إلى النيل الأبيض. وكان المتوقع أن توفر القناة ما يقرب من 13 مليار متر مكعب من المياه.
وتقول تقارير إن أعمال حفر القناة، التي كان من المتوقع أن يبلغ طولها 360 كيلومترا، بدأت في الربع الأخير من ثمانينيات القرن الماضي. ولكن العمل فيها توقف، لأسباب فنية وأخرى تتعلق بالحرب بين جنوب السودان وشماله، بعد حفر 260 كيلومترا.
وهناك تقارير حديثة تشير إلى مشاورات بين مصر وجمهورية جنوب السودان لاستئناف العمل بالقناة لتعوض جزئيا المياه التي تخشى مصر أن تفقدها بسبب سد النهضة الإثيوبي.
وتكشف الوثائق عن وعي مصر بأهمية التعاون لخدمة المصالح المشتركة لدول حوض النيل.
غير أنها تعيد طرح النقاش بشأن اتفاق الخرطوم الإثيوبي السوداني المصري.
فالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يواجه انتقادات، من جانب معارضيه، بسبب توقيعه، يوم 23 مارس 2015 في الخرطوم، على اتفاق إعلان مبادئ.
الانتقاد الرئيسي لهذا الاتفاق هو أنه أعطى أول موافقة مصرية رسمية على مشروع سد النهضة دون الحصول على ضمانات واضحة سواء بشأن آلية ملء وتشغيل السد أو حصة مصر “التاريخية” من مياه النيل.
غير أن الوثائق البريطانية تكشف أنه لم يكن لدى مصر اعتراض على مشروع السد من حيث المبدأ، شريطة التنسيق بما يضمن حماية مصالحها المائية، بل هي أول من اقترح مشروعات مشتركة تحقق مصالح الجميع.
وفضلا عن ذلك كشفت مصادر مصرية، مطلعة اطلاعا واسعا على ملف نهر النيل، لـ(بي بي سي) عن أنه “كان هناك استعداد مصري مخلص لقبول إنشاء سد النهضة بطاقة تخزين تبلغ 14.5 مليار متر مكعب”، وليس بطاقة التخزين التي يستهدفها السد الآن وهو أكثر من 70 مليار متر مكعب، بزيادة تقترب من خمسة أضعاف.
إلا أن هذا الاستعداد لم يُترجم إلى اتفاق بين القاهرة وأديس أبابا. لذلك، يرى خبراء في قوانين المياه الدولية أن إعلان الخرطوم كان خطوة إيجابية.
ويُرجِع البروفيسور جابريل إيكشتاين، رئيس الجمعية الدولية لموارد المياه ذلك إلى أن إعلان المبادىء “أقر لأول مرة رسميا إدراك أهمية نهر النيل كمصدر حياة ومصدر حيوي لتنمية شعوب مصر وإثيوبيا والسودان”.
وردا على تساؤلات بي بي سي، أشار إيكشتاين، وهو أيضا مدير برنامج قوانين أنظمة الطاقة والبيئة والموارد الطبيعية في كلية القانون بجامعة تكساس أيه آند إم الأمريكية، إلى أن ذكر إثيوبيا كانت إشارة مهمة غير مسبوقة.
وهو هنا يشير إلى نص الاتفاق على “تقدير للاحتياج المتزايد لجمهورية مصر العربية، وجمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية، وجمهورية السودان لمواردها المائية العابرة للحدود”.
ويرى الخبير الأمريكي، عضو المجلس التنفيذي للجمعية الدولية لقانون المياه، أن توقيع السيسي على إعلان الخرطوم “عزز موقف مصر كجار منصف وعادل.”
وترى مصر أن لها “حقوقا تاريخية” أهمها حصتها من المياه البالغة 55.5 مليار متر مكعب سنويا، وضرورة الحصول على موافقتها على أي مشروعات تقام على النيل.
غير أن إيكشتاين يرى أن موقف مصر التاريخي بشأن النيل القائم على المعاهدات الاستعمارية “عفا عليه الزمن ويخسر الاحترام بسبب الرفض الدولي المتنامي للادعاءات المطلقة المستندة إلى التاريخ وبسبب القبول العالمي المتزايد لحلول تتسم بقدر أكبر من المساواة في إدارة الموارد المشتركة.”
ويضيف: “لست متأكدا مما إذا كان لدى مصر خيار آخر سوى الاعتراف بالحقوق المشروعة لدول أعالي النيل (دول المنبع). فادعاءاتها المطلقة بشأن النيل لم تعد مقبولة من جانب المجتمع الدولي وهي تحتاج إلى الدعم الدولي، خاصة بعد الربيع العربي.”
غير أن الدكتور محمد نصر علام، وزير الري والموارد المائية المصري السابق، يدفع بأن “الاتفاقيات التاريخية لاتخضع لأراء مختصين بل هى معاهدات لها بنود ومقايضات ورسم حدود وهى ليست خاضعة للأهواء.”
ويرى علام أن “الحكم على مدى قانونية هذه الاتفاقيات مكانه التحكيم الدولي”.
يقول الإثيوبيون إنهم يريدون أن تؤدي أي مفاوضات إلى “فوز للطرفين وإبرام اتفاق دائم يضمن استخداما عادلا ومتساويا للمصدر المشترك (مياه النيل).
وفي رسالة إلى الإدارة الأمريكية، في شهر مارس الماضي، قال المجلس المدني الإثيوبي الأمريكي إن إثيوبيا “تستحق نصيبها العادل من نهر النيل بهدف انتشال شعبها من الفقر”.
قصة سد النهضة
كان مشروع السد هو أحد وسائل الإمبراطور هيلاسيلاسي، الذي حكم إثيوبيا بين عامي 1930و 1974، لتحقيق حلم إعادة أمجاد بلاده. وطلب، في ستينيات القرن الماضي، مساعدة الأمريكيين الذين اقترحوا عليه إنشاء سلسلة من السدود على النيل الأزرق لتوليد كميات كبيرة من الكهرباء. غير أن الأوضاع الداخلية في إثيوبيا حالت دون تنفيذ الاقتراحات الأمريكية.
في أواخر عام 1998، طرح البروفيسور الانجليزي ديفيد غراي، الذي كان يعمل في البنك الدولي آنذاك، مبادرة حوض النيل التي استهدفت إبرام اتفاقية رسمية شاملة بشأن استخدام مياه النيل.
وبعد مفاوضات ماراثونية، تم توقيع المبادرة في فبراير 1999 التي نصت على “الوصول إلى تنمية مستدامة في المجال السياسي-الاجتماعي، من خلال الاستغلال المتساوي للإمكانيات المشتركة التي يوفرها حوض نهر النيل”.
وكانت الوسيلة المقترحة هي إنشاء سلسلة مشروعات مشتركة متعددة الأغراض تستفيد منها الدول المشاطئة للنيل، خاصة الدول الرئيسية الثلاث: إثيوبيا والسودان ومصر.
وفي إطار المبادرة، طرح البنك الدولي مشروع إنشاء سسلسلة من أربعة سدود على النيل الأزرق بهدف توليد كهرباء تستفيد منها الدول الثلاث، وبتمويل من دول مانحة.
وبعد جولة مفاوضات أخرى، اتفقت كل دول حوض النيل على التوقيع على المشروع أواخر عام 2009. وعندما حان وقت التوقيع، تراجعت مصر.
ويقول البروفيسور بيتر فان دير زاج، أستاذ الإدارة المتكاملة للموارد المائية في معهد ” آي اتش إي يلفت” الهولندي الشهير إن الموقف المصري “كان مفاجئا في اللحظات الأخيرة ومحبطا للزعيم الإثيوبي في ذلك الوقت (ميليس زيناوي) الذي أمر ببناء سد وسد كبير.”
وأطلق على المشروع حينها اسم “سد الألفية”. وبالفعل، بدأ بناء السد بأمر زيناوي في أثناء ثورة 25 يناير عام 2011 في مصر، ولكن باسم سد النهضة.
لم يكشف البروفيسور فان دير زاج، في مقابلة تليفزيونية بثها معهد “آي اتش إي يفلت” آخر الشهر الماضي، سبب تراجع مصر عن التوقيع عن مشروع السدود.
غير أن الدكتور محمد نصر علام، الذي كان رئيس قسم الري والهيدروليكا في جامعة القاهرة قبل توليه الوزارة، يقول إن المشروع “كان بالغ الخطورة ويضر بموقف مصر المائي”.
وكشف علام، الذي رفض التوقيع بعد شهور من توليه الوزارة في فبراير 2009، لـ(بي بي سي) عن أنه “راجع الدراسات وتبين أن السدود المقترحة كانت ستحجز 140 مليار متر مكعب من المياه”. وأضاف أن “القيادة السياسية أيدت اقتراحه برفض التوقيع بعد عرض نتائج دراساته عليها”.